مداخل الشيطان [1]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71] .

أما بعد:

فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وأحسنَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار .

الجنس الأول من الشر الذي يطمح الشيطان إليه مع بني آدم: أن يوقعهم في الكفر .

وللشيطان مذهب لم يغِب عن الأرض طرفة عين، قال الله عز وجل: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلَّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس:60-62] وهذا يدل على أن أكثر أهل الأرض يتبعون مذهب الشيطان (جِبِلَّاً كثيراً)، وهذا واضح أيضاً في قول الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ [الحج:18] ومعروف عند العلماء: أن اسم الجنس إذا حُلِّي بالألف واللام فإنه يفيد العموم والاستغراق.

(مَن) مِن صِيَغ العموم فقوله: مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ [الحج:18] أي: عموم المخلوقات.

ثم جاء بعد ذلك تفصيل لهذا العموم بعموم آخر للتأكيد، وهو قوله تعالى: وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ [الحج:18]، فكلمة: (دابة) اسم لجنس الدواب، فإذا دخلت الألف واللام على كلمة (دابة) أفادت كل دابة على وجه الأرض، وكذلك الأشياء الأخرى مثل النجوم والشجر.. فكلها تسجد لله.

فلما جاء ذكر الناس قال تعالى: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18].

إذاً: ليسوا جميعاً موحدون، مع أن الكون كله ساجد موحِّد إلا الثقلين: الإنس، والجن: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلَّاً كَثِيراً [يس:62].

وأي مذهب عموماً لا يكون إلا بأمر ونهي، فقد أنزل الله عز وجل الكتاب، وأرسل الرسل؛ ليأمر الناس بشيء وينهاهم عن شيء .

إذاً: الأمر والنهي أصل كل مذهب، ولذلك قال الشيطان: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ [النساء:119] .

النبي عليه الصلاة والسلام عندما جاء إلى العرب ودعاهم إلى الله لماذا قاتلوه؟ مع أنهم كانوا يوحدون الله عز وجل بتوحيد الربوبية الخاص بالخلق، والإحياء، والإماتة، والإيجاد من عدم، ولم يدعِ أحد من العرب أن آلهةً أخرى اشتركت مع الله في خلق شيء، ولا في تدبير شيء، وقد أقام الله عز وجل عليهم الحجة في كثير من آيات القرآن:

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت:61] .

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [العنكبوت:63] .

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [لقمان:25].

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38] .

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9] .

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف:87] .

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [يونس:31] .

قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون:84-89] .

هذا كله يقرونه لله عز وجل.

إذاً: لماذا قاتل العربُ النبيَّ عليه الصلاة والسلام ولم يسلموا له بدعوته؟

إن التوحيد الذي أبى العرب أن يسلموا به هو توحيد العبادة؛ توحيد الألوهية، قال تعالى: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] .

هذا الذي أنكره العرب، وصبروا على حشد الغلاصم، وقطع الحلاقم، ونفذ الأراقم، ومتون الصوارم، وأبوا أن يقولوا هذه الكلمة .

ما المشكلة؟

قل: (لا إله إلا الله).

لماذا تقوم الحروب؟

لماذا تعرِّض نساءك لأن يكنَّ سبايا؟

لماذا تعرض نفسك للقتل؟

لماذا يُسْتَرَقُّ ولدُك؟

لماذا كل هذا؟

فأبَوا أن يسلموا بتوحيد العبادة، وتوحيدُ العبادة في مثل قوله تبارك وتعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57] (يقُصُّ الحق) أي: يقضيه، وفي الرواية الأخرى المتواترة وهي قراءة حمزة، وأبي عمرو بن العلاء، والكسائي وخلف : (يَقُضِيْ الْحَقَّ).

إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40] .

وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:70] .

كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ [القصص:88] .

وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد:41] .

وقال تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68] .

فهذا هو توحيد العبادة: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57] وتوحيد الحاكمية من أخص خصائص توحيد الألوهية، لا يحل لأحد أن يأمر بمعروف؛ بواجبٍ أو مستحبٍِ أو ينهى إلا الله ومَن أرسله مِن رسول.

وعندما درسوا الدين في المدارس افتتحوه بعبارة شهيرة ماكرة قالوا: (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وهم -وذكروا بعض مظاهر الجاهلية- يسجدون للأصنام، ويشربون الخمر، ويَئِدون البنات) وانتهى الأمر على هذا، وصارت عبارةً دارجةً شهيرةً في الكتب، هل هذه العبارة صحيحة؟

والقاعدةُ الإعلاميةُ اليهوديةُ الماكرةُ تقول: (ما تكرر تقرر) فمع تكرار العبارة يصير وقعُها في نفوس الجماهير مستقراً، حتى لو كانت خاطئة، فإذا استقرت هذه العبارة في نفوس الجماهير فنظروا الآن:

هل هناك أحد يعبد الأصنام؟

الجواب: لا.

هل هناك من يشرب الخمر؟

سواد المسلمين لا يشربون الخمر ويعلمون أنه حرام حتى الذين يشربونه .

هل هناك من يدفن البنات الآن؟

الجواب: لا.

إذاً: الإسلام الذي قاتل لأجله النبي صلى الله عليه وسلم موجود، هل هذه العبارة صحيحة بهذا الإطلاق؟

الجواب: لا .

إن العرب قاتلوا حتى لا يكون الحكم لله، يريدون أن يحكموا ويشرعوا بأهوائهم، لا يحل الحكم في خردلة فما دونها إلا بحكم الله عز وجل .

إن العرب صبروا على القتال، وفقدوا الأنفس الغالية -فقدوا الرؤساء، وفقدوا السادة والصناديد الكبار- وسُبِيَت نساؤهم؛ وهذا عارٌ عند العرب أن تذهب امرأةُ أحدهم إلى رجل كان يستقلُّه قبل ذلك ويحتقره، ويُقْتَل الصغار، وأبَوا أن يوحدوا توحيد العبادة الذي هو التسليم لحكم الله عز وجل، فهذا هو التوحيد الذي قاتل النبي صلى الله عليه وسلم العرب لأجله؛ توحيد العبادة (الأمر والنهي).

من الأدلة على عدم توحيد بعض المسلمين لله بتوحيد الحاكمية

يزعجني أن كثيراً من الناس لا يلتزم أحكامَ الله، ولا يسأل عنها إلا إذا وقع في ورطة ولم يجد لها حلاً، أو أصابته مصيبة فجاء يسأل عن حكم الله، أيكون الجمادُ خيراً من الإنسان؟

إن الله عز وجل قال للسماوات والأرض: اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11] .

لماذا لا يرجع الإنسان إلى الله إلا بعد أن يصيبه العذاب الأليم؟!

رجل يسرق أموال الناس، ويختلس من الشركة، ويضع أمواله في البنوك، ومكث على هذه الحال ثماني عشرة سنة وهو يفعل ذلك، وفجأة سقط صريعاً، كشف عنه الأطباء فظَهَر أن عنده ذبحة، وعندما علم بذلك طفق يسأل وجاء يقول: ماذا أفعل في تركة ثماني عشرة سنة؟ البيت الذي بنيته من هذه الأموال .. كل مشروعاتي من هذه الأموال .. ربَّيت أولادي من هذه الأموال .. لا أمتلك شيئاً على الأرض إلا من هذه الأموال، وأنا لا أستطيع أن أخرج من بيتي ولا أخرج من تجارتي، فجدوا لي حلاً، ماذا أفعل؟ هكذا مدة ثماني عشرة سنة يفعل كل شيء، ثم إذا أصابته جائحة جاء يسأل عن حكم الله.

كثيرٌ من التجار يعقدون الصفقات ولا يسألون عن حكم الله فيها، صحيحٌ أن الأصل في البيوع الحل، لكن نظراً لاختلاط المسلمين بالكافرين، وأن الكافرين يستحدثون من وجوه المبايعات ما يحفظ لهم أموالهم، ولا يلتزمون بحكم الله، والمسلمون يعاملونهم، وللكافرين اليدُ العليا في البضائع والصناعات، فيذهب المسلم فيعقد صفقة مع الكافر على مذهبه؛ لأنه هو السيد والمالك، فيشترط عليه شروطاً هي في ديننا محرمة، فحينئذٍ يجب عليه أن يسأل أهلَ العلم في كل مبايعة جديدة، وإن كان الأصل في المبايعات الحل؛ لكنه لا يعلم الشرع فلا بد أن يسأل أهل العلم.

فكم يا ترى للتجار مستشارين من أهل العلم؟

التجار الكبار لهم مستشارون قانونيون ومحاسبون، ويعطونهم رواتب عالية وثابتة، ويعطونهم نسباً أيضاً، وأهلُ العلم استشارتهم مجانية بلا مال، فهل يا ترى لكل تاجر كبير مستشار من العلماء يقول له: هذا حلال وهذا حرام، ويصدر عن فتواه؟

هذا مِن أدل الأدلة على أننا لا نوحد الله عز وجل توحيد الحاكمية الذي هو من أخص خصائص توحيد الألوهية.

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حماية جناب التوحيد

هذا الجنس الخطير -الكفر- هو ما يطمح الشيطان إليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على صيانة جناب التوحيد حتى ولو باللفظ، لا أقول بالفعل -حاشا لله- إنما باللفظ.

ويدل على هذا ما رواه ابن ماجة وأحمد وغيرهما بسند قوي عن طفيل بن سخبرة وهو أخو عائشة رضي الله عنها لأمها: (أنه رأى في المنام طائفة من الناس قال: من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود، فقال لهم: نِعْم القوم أنتم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، فقالوا له: ونِعْم القوم أنتم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله ومحمد، ثم قابَلَ -يعني في منامه- طائفة أخرى قال: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى، فقال لهم: نِعْم القوم أنتم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، فقالوا له: ونِعْم القوم أنتم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله ومحمد، فاستيقظ من منامه، فأخبر بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرؤيا، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بالرؤيا فقال له: هل أخبرتَ أحداً؟ قال: نعم، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر، ونادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن طفيلاً أخبرني أنه رأى في منامه كذا وكذا .. وأنتم كنتم تقولون كلمةً كان يمنعني الحياء منكم أن أقولها لكم، كنتم تقولون: ما شاء الله ومحمد، ألا قولوا: ما شاء الله ثم محمد) .

ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول له: (ما شاء الله وشئتَ، قال: أجعلتَني لله نداً؟! قل: ما شاء الله ثم شئتَ) مع أنه لم يخطر ببال الرجل -فيما أحسب- أن يكون جَعَل محمداً صلى الله عليه وسلم نداً لله، ما أظن أن هذا المعنى خطر على باله، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً؟!) جعله نداً لله بحرفٍ واحد، حرف الواو (ما شاء الله (و) شئتَ) حرف واحد! فما بالك بالذين يقولون جُمَلاً، ويكتبون كتباً في الشرك: يا بدوي أغثني! يا جيلاني أمدني! يا دسوقي ادفع عني! حرف واحد، لا أقول كلمةً ولا جملةً ولا كتاباً؟!

كتاب: (دلائل الخيرات) منتشر عند العوام وهو يعج بالشرك، ولا يحل لأحد أن يقرأ منه حرفاً واحداً.

إذاً: نخلص من هذا أن التوحيد الكبير الذي كان فرقاناً بين الجاهلية والإسلام هو توحيد العبادة، وكانت العرب تعرف بعضاً من أسماء الله، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9]، وإنما أنكروا صفة الرحمن جحوداً واستكباراً منهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [الفرقان:60] نوع من الجحود .

فهذا الجنس الخطير -الشرك- هو ما يسعى الشيطان إليه، وأوسعُ هذه الأبواب: تلقي الأوامر والنواهي من غير الله عز وجل، قال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:116-117] .

وكان الإمام أحمد رحمه الله إذا سُئِل عن مسألة في الحلال والحرام يقول: (يعجبني)، و(لا يعجبني)، (أحب ذلك)، و(أكره ذلك)، فلما قيل له: ألا تقول: حرام وحلال؟ فتلا قوله تبارك وتعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل:116] .

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم .

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .

أيها الإخوة الكرام:

ظل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثةَ عشر عاماً يدعو الناس إلى الله وإلى توحيده، وأهْدَرَ الأموالَ لعلةِ التوحيد بين الناس، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يرث المسلمُ الكافرَ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يتوارث أهلُ مِلَّتَين).

لو أن شخصاً كان ابن أغنى إنسان على وجه الأرض، وكان ولده الوحيد، فأسلم الابن ومات الأب كافراً، فلا يحل لهذا الولد أن يأخذ درهماً واحداً من تركة أبيه، وقد يكون من أفقر الناس، ومع ذلك لا يحل له أن يأخذ درهماً واحداً، الذي فرَّق بينهما التوحيد، حتى يكون الدينُ كلُّه لله، ومسألةُ عِلِّية المال تنتفي، وهذا يدلك على أن الفرقانَّ المعنيَّ به في القرآن هو التوحيد الذي فرَّق بين الوالد وولده، والولد ووالده.

يزعجني أن كثيراً من الناس لا يلتزم أحكامَ الله، ولا يسأل عنها إلا إذا وقع في ورطة ولم يجد لها حلاً، أو أصابته مصيبة فجاء يسأل عن حكم الله، أيكون الجمادُ خيراً من الإنسان؟

إن الله عز وجل قال للسماوات والأرض: اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11] .

لماذا لا يرجع الإنسان إلى الله إلا بعد أن يصيبه العذاب الأليم؟!

رجل يسرق أموال الناس، ويختلس من الشركة، ويضع أمواله في البنوك، ومكث على هذه الحال ثماني عشرة سنة وهو يفعل ذلك، وفجأة سقط صريعاً، كشف عنه الأطباء فظَهَر أن عنده ذبحة، وعندما علم بذلك طفق يسأل وجاء يقول: ماذا أفعل في تركة ثماني عشرة سنة؟ البيت الذي بنيته من هذه الأموال .. كل مشروعاتي من هذه الأموال .. ربَّيت أولادي من هذه الأموال .. لا أمتلك شيئاً على الأرض إلا من هذه الأموال، وأنا لا أستطيع أن أخرج من بيتي ولا أخرج من تجارتي، فجدوا لي حلاً، ماذا أفعل؟ هكذا مدة ثماني عشرة سنة يفعل كل شيء، ثم إذا أصابته جائحة جاء يسأل عن حكم الله.

كثيرٌ من التجار يعقدون الصفقات ولا يسألون عن حكم الله فيها، صحيحٌ أن الأصل في البيوع الحل، لكن نظراً لاختلاط المسلمين بالكافرين، وأن الكافرين يستحدثون من وجوه المبايعات ما يحفظ لهم أموالهم، ولا يلتزمون بحكم الله، والمسلمون يعاملونهم، وللكافرين اليدُ العليا في البضائع والصناعات، فيذهب المسلم فيعقد صفقة مع الكافر على مذهبه؛ لأنه هو السيد والمالك، فيشترط عليه شروطاً هي في ديننا محرمة، فحينئذٍ يجب عليه أن يسأل أهلَ العلم في كل مبايعة جديدة، وإن كان الأصل في المبايعات الحل؛ لكنه لا يعلم الشرع فلا بد أن يسأل أهل العلم.

فكم يا ترى للتجار مستشارين من أهل العلم؟

التجار الكبار لهم مستشارون قانونيون ومحاسبون، ويعطونهم رواتب عالية وثابتة، ويعطونهم نسباً أيضاً، وأهلُ العلم استشارتهم مجانية بلا مال، فهل يا ترى لكل تاجر كبير مستشار من العلماء يقول له: هذا حلال وهذا حرام، ويصدر عن فتواه؟

هذا مِن أدل الأدلة على أننا لا نوحد الله عز وجل توحيد الحاكمية الذي هو من أخص خصائص توحيد الألوهية.




استمع المزيد من الشيخ أبو إسحاق الحويني - عنوان الحلقة اسٌتمع
أسئلة وأجوبة[1] 2835 استماع
التقرب بالنوافل 2823 استماع
حديث المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده 2763 استماع
لماذا نتزوج 2703 استماع
انتبه أيها السالك 2693 استماع
سلي صيامك 2665 استماع
منزلة المحاسبه الدرس الاول 2648 استماع
إياكم والغلو 2626 استماع
تأملات فى سورة الدخان 2615 استماع
أمريكا التي رأيت 2596 استماع