مداخل الشيطان[2]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71] .

أما بعد:

فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار .

أيها الإخوة الكرام! فلا زلنا نميط اللثام عن كيد الشيطان لابن آدم، وقد قال الله تبارك وتعالى: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ [الأعراف:27-29] .

في ترتيب هاتين الآيتين سرٌّ بديع، وقفتُ عليه بتوفيق ربي، ثم بطول التأمل في الآيتين، ولكن لا يظهر المعنى إلا بمقدمة، وهذه المقدمة قد تطول؛ لكنها ضرورية .

قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ [الأعراف:27] .

ثم قال : وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا [الأعراف:28] .

إن تأثير الآباء في الأبناء عظيم الجذور؛ ولذلك دَرَج أهل الجاهلية أن يحلفوا بآبائهم، ومِن المعلوم أن الحلف إنما هو لتعظيم المحلوف به، ففي الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه قال: (سمعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أقول: وأبي! وأبي -أي يحلف بأبيه- فقال: يا عمر ! إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت، قال عمر : فما حلفت به ذاكراً ولا آثراً) ذاكراً: لا أحلف، ولا آثراً: لا أقول: إنني في يوم من الأيام قلت: وأبي، فيحلف بأبيه على سبيل الحكاية، وليس على سبيل الحلف، فإعمالاً لهذا النهي من النبي عليه الصلاة والسلام وتعظيماً لجنابه يقول: (ما حلفتُ به ذاكراً ولا آثراً) ولأن الوالد هو أغلى ما يمتلكه الولد في هذه الدنيا مع الأم، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا أرادوا أن يُفَدُّوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: بأبي أنت وأمي. أي: أفديك بأبي وأمي، ولو كان هناك أغلى منهما لفديتك به.

وفي صحيح البخاري أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يصلي صلاة العصر مع علي بن أبي طالب وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، فلما خرج من المسجد أبصر أبو بكر الحسن بن علي، فجعل أبو بكر يعدو خلفه والحسن يهرب حتى أمسكه أبو بكر، فرفعه على عاتقه وهو يقول: (بأبي شَبِيْهٌ بالنبي ليس شَبِيْهاً بـعلي ).

والباء هنا ليست باء القسم، إنما هي باء التفدية؛ أي: أفديه بأبي ليس شبيهاً بـعلي، إنما يشبه النبي صلى الله عليه وسلم كله.

فكانت العرب قديماً يحلفون بالآباء لرسوخ هذه العلاقة بين الأبناء والآباء في نفوس الأبناء.

ذكر ربنا تبارك وتعالى أن الرسل أول ما عورضوا بسنة الآباء، وجعلها الناس عقَبَةً كأْداء في طريق الأنبياء: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]، مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ [الزخرف:23] وهذا كله يفيد العموم، أي: ما جاء نبي قط أرسله الله إلى قرية ما إلا عارضوه بسنة الآباء فقالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23] .

ولو رجعتَ إلى القرآن الكريم تجد تفصيل هذا الكلام.

نوح عليه السلام ومعارضة قومه بسنة آبائهم

نوح أول نبي أرسل -كما في الحديث الصحيح- وعورض بسنة الآباء:

قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ [المؤمنون:23-24] .

فجعلوا جهل آبائهم قائماً مقامَ الحجة، : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:91] نعم ما قَدَروه حق قدره، يخلق عباده، ويخلق لهم السماوات والأرض، ولا يرسل إليهم أنبياء يعرفونهم طريق سعادتهم؟!

أهذا يليق بالرحمن الرحيم؟!

يطعمهم، وينمي أبدانهم، ويملأ بطونهم، ولا يرسل إليهم رسولاً يعرِّفهم به؟

إن الذين زعموا ذلك: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الأنعام:91] مَن الذي فعل ذلك؟! مَن الذي أنزل هذه الكتب؟!

وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ [الأنعام:91] مَن الذي علَّمكم أنتم وآباءكم؟

قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام:91].

فهؤلاء جعلوا جهل آبائهم قائماً مقام الحجة في معارضة الأنبياء.

إبراهيم عليه السلام أكثر من عورض بسنة الآباء

إبراهيم عليه السلام الحنيف، وهو من أكثر الذين عورضوا بسنة الآباء: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ [الأنبياء:52-53] .

وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء:69-74] .

وكان بينه وبين أبيه مجادلة عنيفة أدى فيها إبراهيم عليه السلام حق البنوة وحق العبودية، أدى حق البنوة فدعا أباه بألطف عبارة إلى الله، وأدى حق ربه عز وجل إذ تولى بِرُكْنه وترك الأصنام وعابديها:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيَّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيَّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيَّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيَّاً * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيَّاً [مريم:41-46] .

قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة فيقول إبراهيم: أَلَمْ أنهك -يعني أن تشرك بالله شيئاً- فعصيتني؟ فيقول أبوه: اليوم لا أعصيك، فيتوجه إبراهيم عليه السلام فيقول: يا رب! وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، وأي خزيٍ أعظم من أن يدخل الأبعدُ النار -الأبعد: أبوه- فقال الله عز وجل: يا إبراهيم! إني حرمت الجنة على الكافرين، انظر تحت قدميك، فينظر فإذا هو بذيخ ملتطخ -صورة ضبع منتن الرائحة، يدور في رجيعه- فيؤخذ بقوائمه إلى النار) .

إن الله عز وجل لا يجامل أحداً في التوحيد: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة:72] .

فرعون ومعارضته لدعوة موسى بتقليد الآباء

معارضة قوم هود وصالح وشعيب لأنبيائهم بسنة الآباء

وكذلك لما جاء هود عارضوه بسنة الأنبياء أيضاً: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ [الأعراف:65] ... قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ [الأعراف:70-71] .

وكذلك لما جاء صالح إلى ثمود ودعاهم إلى الله عز وجل: قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوَّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا [هود:62] .

ولما جاء شعيب إلى مدين عارضوه أيضاً بسنة الآباء: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:85] .

فبماذا أجابوه؟

قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87].

جُنِنْتَ؟! نتبعك ونعبد الله، ونتصرف في أموالنا على حسب رأيك؟! إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87] .

نبينا عليه الصلاة والسلام ومعارضة قومه دعوته بسنة الآباء

ثم كان نبينا عليه الصلاة والسلام أكثر الذين عورضوا من الأنبياء بسنة الآباء:

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170] .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [المائدة:104] .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان:21]

وفي الصحيحين من حديث المسيب بن حزن رضي الله عنه قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليه وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل : أترغب عن ملة عبد المطلب -أترغب عن دين آبائك- فكان آخر شيء قاله: على ملة عبد المطلب ) .

فسنة الآباء عَقَبَة كأداء.

قال الله عز وجل:فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ [البقرة:200] فلو كان هناك أحد غير الوالد يذكر عند الولد لذكره الله؛ لأنه ذكر الآية في معرض الحث على كثرة ذكر الله، ولا يُضْرَب المثل بالأدون، إنما يُضْرَب بالأعلى، فلو كان هناك أكثر من الآباء ذكراً عند الأبناء لذكره الله عز وجل .

نوح أول نبي أرسل -كما في الحديث الصحيح- وعورض بسنة الآباء:

قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ [المؤمنون:23-24] .

فجعلوا جهل آبائهم قائماً مقامَ الحجة، : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:91] نعم ما قَدَروه حق قدره، يخلق عباده، ويخلق لهم السماوات والأرض، ولا يرسل إليهم أنبياء يعرفونهم طريق سعادتهم؟!

أهذا يليق بالرحمن الرحيم؟!

يطعمهم، وينمي أبدانهم، ويملأ بطونهم، ولا يرسل إليهم رسولاً يعرِّفهم به؟

إن الذين زعموا ذلك: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الأنعام:91] مَن الذي فعل ذلك؟! مَن الذي أنزل هذه الكتب؟!

وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ [الأنعام:91] مَن الذي علَّمكم أنتم وآباءكم؟

قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام:91].

فهؤلاء جعلوا جهل آبائهم قائماً مقام الحجة في معارضة الأنبياء.

إبراهيم عليه السلام الحنيف، وهو من أكثر الذين عورضوا بسنة الآباء: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ [الأنبياء:52-53] .

وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء:69-74] .

وكان بينه وبين أبيه مجادلة عنيفة أدى فيها إبراهيم عليه السلام حق البنوة وحق العبودية، أدى حق البنوة فدعا أباه بألطف عبارة إلى الله، وأدى حق ربه عز وجل إذ تولى بِرُكْنه وترك الأصنام وعابديها:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيَّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيَّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيَّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيَّاً * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيَّاً [مريم:41-46] .

قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة فيقول إبراهيم: أَلَمْ أنهك -يعني أن تشرك بالله شيئاً- فعصيتني؟ فيقول أبوه: اليوم لا أعصيك، فيتوجه إبراهيم عليه السلام فيقول: يا رب! وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، وأي خزيٍ أعظم من أن يدخل الأبعدُ النار -الأبعد: أبوه- فقال الله عز وجل: يا إبراهيم! إني حرمت الجنة على الكافرين، انظر تحت قدميك، فينظر فإذا هو بذيخ ملتطخ -صورة ضبع منتن الرائحة، يدور في رجيعه- فيؤخذ بقوائمه إلى النار) .

إن الله عز وجل لا يجامل أحداً في التوحيد: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة:72] .

وكذلك لما جاء هود عارضوه بسنة الأنبياء أيضاً: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ [الأعراف:65] ... قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ [الأعراف:70-71] .

وكذلك لما جاء صالح إلى ثمود ودعاهم إلى الله عز وجل: قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوَّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا [هود:62] .

ولما جاء شعيب إلى مدين عارضوه أيضاً بسنة الآباء: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:85] .

فبماذا أجابوه؟

قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87].

جُنِنْتَ؟! نتبعك ونعبد الله، ونتصرف في أموالنا على حسب رأيك؟! إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87] .

ثم كان نبينا عليه الصلاة والسلام أكثر الذين عورضوا من الأنبياء بسنة الآباء:

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170] .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [المائدة:104] .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان:21]

وفي الصحيحين من حديث المسيب بن حزن رضي الله عنه قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليه وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل : أترغب عن ملة عبد المطلب -أترغب عن دين آبائك- فكان آخر شيء قاله: على ملة عبد المطلب ) .

فسنة الآباء عَقَبَة كأداء.

قال الله عز وجل:فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ [البقرة:200] فلو كان هناك أحد غير الوالد يذكر عند الولد لذكره الله؛ لأنه ذكر الآية في معرض الحث على كثرة ذكر الله، ولا يُضْرَب المثل بالأدون، إنما يُضْرَب بالأعلى، فلو كان هناك أكثر من الآباء ذكراً عند الأبناء لذكره الله عز وجل .


استمع المزيد من الشيخ أبو إسحاق الحويني - عنوان الحلقة اسٌتمع
أسئلة وأجوبة[1] 2879 استماع
التقرب بالنوافل 2827 استماع
حديث المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده 2769 استماع
لماذا نتزوج 2706 استماع
انتبه أيها السالك 2697 استماع
سلي صيامك 2670 استماع
منزلة المحاسبه الدرس الاول 2656 استماع
إياكم والغلو 2632 استماع
تأملات فى سورة الدخان 2619 استماع
أمريكا التي رأيت 2602 استماع