هارون بن محمد بن بكار بن بلال الدمشقي روى عن محمد بن عيسى بن القاسم بن سميع وابيه وبشير بن النعمان من ولد النعمان ابن بشير، روى عنه أبي رحمه الله. نا عبد الرحمن قال سئل أبي عنه فقال: صدوق. [قال أبو محمد - ] :
مختصر تاريخ دمشق - ابن منظور
هارون بن محمد بن بكار بن بلال العاملي حدث عن منبه بن عثمان بسنده إلى الحسن بن عبد الرحمن بن سمرة قال له: يا حسن سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا تسأل الإمارة، فإنه من سألها وكل إليها، ومن ابتلي بها ولم يسألها أعين عليها. قال عمر بن عبد العزيز: إن هذا لشيء ما سألته الله قط. حدث عن محمد بن عيسى بسنده إلى معاذ بن جبل: أنه أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ بعثه إلى اليمن، فقال: يا رسول الله أوصني، فقال احفظ لسانك. فكأن معاذاً تهاون بذلك؛ فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثكلتك أمك يا بن جبل وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟! وحدث عن مروان بسنده إلى عمر بن الخطاب: أنه ذكر لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه تصيبه الجنابة من الليل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: توضأ واغسل ذكرك، ثم نم. وحدث عن محمد بن سميع بسنده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان يقول: دية كلب الصيد أربعون درهماً، ودية كلب الغنم شاة سمينة، ودية كلب الحرث فرق من طعام، ودية كلب الحرس فرق من تراب، ليس لقاتله أن يمنعه، وليس لصاحبه أن يرده. 1 - /هارون الرشيد بن محمد بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أبو جعفر ويقال: أبو أمير المؤمنين بويع بالخلافة بعد موت أخيه موسى الهادي بعهد من أبيه المهدي. قدم الشام غير مرة للغزو. حدث هارون الرشيد عن جده المنصور عن أبيه محمد بن علي عن أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب عن المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا نكاح إلا بولي، وما كان بغير ولي فهو مردود ". قال هارون على المنبر: حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتقوا النار ولو بشق تمرة. مر الرشيد بدير مران، فاستحسنه، وهو على تل تحته رياض زعفران وبساتين، فنزله، وأمر أن يؤتى بطعام خفيف، فأتى به، فأكل، وأتي بالشراب، ودعا بالندماء والمغنين، فخرج إليه صاحب الدير، وهو شيخ كبير هرم، فسأله واستأذنه في أن يأتيه بشيء من طعام الديارات، فأذن له، فإذا أطعمه نظاف، وإدام في نهاية الحسن، فأكل منها اكثر أكله، وأمره بالجلوس فجلس يحدثه، وهو يشرب إلى أن جرى ذكر بني أمية، فقال له الرشيد: هل نزل منهم أحد؟ فال: نعم، نزل بي الوليد بن يزيد وأخوه الغمر، فجلسا في هذا الموضع، فأكلا وشربا وغنيا. فلما دب فيهما السكر وثب الوليد إلى ذلك الجرن فملأه وشرب به، وملأه، وسقى به أخاه الغمر، فما زالا يتعاطيانه حتى سكرا، وملأه لي دراهم، فنظر إليه الرشيد، فإذا هو عظيم لا يقدر على أن يشرب ملأه، فقال: أبى بنو أمية إلا أن يسبقونا إلى اللذات سبقًا لا يجاريهم أحد فيه، ثم أمر برفع النبيذ من بين يديه وركب من وقته. كان الرشيد يقول: الدنيا أربعة منازل قد نزلت منها ثلاثة: أحدها الرقة، والآخر دمشق، والآخر الري في وسطه نهر، وعن جنبيه أشجار ملتفة متصلة، وفيما بينهما سوق. والمنزل الرابع سمرقند، وهو الذي بقي علي أنزله، وأرجو ألا يحول الحول في هذا الوقت حتى أحل به. فما كان بين هذا وبين أن توفي إلا أربعة أشهر فقط. كان أبو جعفر الرشيد ولد بالري سنة ست وأربعين ومئة، وقيل: سنة سبع وأربعين، وقيل: ثمان، وقيل: تسع وأربعين، وقيل: سنة خمسين ومئة. وكان سنة يحج وسنة يغزو. قال أبو السعلي: الوافر فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثغور ففي أرض العدو على طمر ... وفي أرض البنية فوق كور وما جاز الثغور سواك خلق ... من المستخلفين على الأمور وأم الرشيد والهادي واحدة هي الخيزران وفيها يقول الشاعر: الكامل يا خيزران هناك ثم هناك ... أمسى العباد يسوسهم ابناك واستخلف هارون يوم مات أخوه موسى، وكان هارون أبيض، طويلاً، مسمناً، جميلاً، قد وخطه الشيب. ولما بويع الرشيد في سنة سبعين ومئة في اليوم الذي توفي فيه الهادي ولد المأمون في تلك الليلة، فاجتمعت له بشارة الخلافة، وبشارة الولد، وكان يقال: ولد في هذه الليلة خليفة، وولي خليفة، ومات خليفة. وكان ينزل الخلد. وحكى بعض أصحابه أنه كان يصلي في كل يوم مئة ركعة إلى أن فارق الدنيا إلا أن تعرض له علة. وكان يتصدق في كل يوم من صلب ماله بألف درهم، وكان إذا حج حج معه مئة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج في كل سنة ثلاث مئة رجل بالنفقة السابغة. وكان يقتفي أخلاق المنصور، ويعمل بها إلا في العطايا والجوائز، فإنه كان أسنى الناس عطية ابتداءً وسؤالاً، وكان لا يضيع عنده يد ولا عارفة. وكان لا يؤخر عطاءه، ولا يمنعه عطاء اليوم من عطاء غد. وكان يحب الفقه والفقهاء، ويميل إلى العلماء، ويحب الشعر والشعراء، ويعظم الأدب والأدباء، ويكره المراء في الدين والجدال، ويقول: إنه لخليق ألا ينتج خيراً، ويصغي إلى المديح ويحبه، ويجزل عليه العطاء ولاسيما إذا كان من شاعر فصيح مجيد. وكان نقش خاتم هارون بالحميرية، وخاتم الخاصة لا إله إلا الله. قال أبو معاوية الضرير: حدثت الرشيد هارون بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وددت إني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل. فبكى هارون حتى انتحب وقال له: يا أبا معاوية، ترى لي أن أغزو؟ قلت: يا أمير المؤمنين، مكانك في الإسلام أكبر، ومقامك أعظم، ولكن ترسل الجيوش. قال أبو معاوية: ما ذكرت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين يديه إلا قال: صلى الله على سيدي ومولاي. وفي سنة ست وثمانين ومئة أقام الحج الرشيد هارون، وجدد البيعة لابنه محمد المخلوع، وعبد الله المأمون، وكتب بينهما شروطا، وعلق الكتاب بالكعبة. وفي سنة تسعين غزا الرشيد الروم، وفرق القواد في بلادهم، وأقام هو بطوانة، وسأله الطاغية أن ينصرف عنه، ويعطيه مالاً، فأبى، أو يعطيه فدية وخراجاً، ويبعث إليه بجزية عن رأسه ورأس ابنه، فبعث إليه ثلاثين ألف دينار جزية، وأربعة دنانير جزية عن رأسه ودينارين عن رأس ابنه. وفي سنة ثلاث وسبعين ومئة حج بالناس هارون، وهي السنة التي قسم فيها للناس صغيرهم وكبيرهم درهماً درهماً. وفي سنة ثلاث وسبعين فتحت سمالوا. وفي سنة تسعين فتح هرقلة، وقال أبو العتاهية فيها: الكامل الحمد لله اللطيف بخلقه ... إنا لنجزع والإمام صبور فتحت هرقلة بعد طول تمنع ... إني بكل مسرة مسرور وإمامنا فيها أغر محجل ... وحجوله يوم القيامة نور إن حط رحل الحج أعمل سرجه ... للغزو ينجد مرة ويغور همم لهارون الإمام بعيدة ... أبداً لهن مواسم وثغور هارون شيد كل عز كان أس ... سه له المهدي والمنصور هارون هارون المدافع ربه ... عنه هو المحفوظ والمستور قفل الإمام وقد تكامل فيئه ... وأقام جزيته له النقفور روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يكون من ولد العباس ملوك يلون أمر أمتي يعز الله بهم الدين. ومن بارع شعر أبي الشيص قوله يمدح الرشيد عند هزيمة نقفور وفتح بلاد الروم من قصيد: الطويل شددت أمير المؤمنين قوى الملك ... صدعت بفتح الروم أفئدة الترك قريت سيوف الله هام عدوه ... وطأطأت بالإسلام ناصية الشرك فأصبحت مسروراً ولا تعي ضاحكاً ... وأصبح نقفور على ملكه يبكي كان أبو معاوية الضرير عند الرشيد، فجرى الحديث إلى حديث أبي هريرة أن موسى لقي آدم، فقال: أنت آدم الذي أخرجتنا من الجنة؟ ... الحديث، فقال رجل قرشي كان عنده من وجوه قريش: أين لقي آدم موسى؛ فغضب الرشيد وقال: النطع والسيف، زنديق والله يطعن في حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول: كانت منه بادرة ولم يفهم يا أمير المؤمنين حتى أسكنه. وفي رواية: فغضب الرشيد وقال: من طرح إليك هذا؟ وأمر به فحبس، فقال: والله ما هو إلا شيء خطر ببالي، وحلف بالعتق وصدقة المال ومغلظات الأيمان ما سمعت من أحد، ولا جرى بيني وبين أحد في هذا الكلام. قال: فلما عرف الرشيد ذلك قال: فأمر به فأطلق، وقال: إنما توهمت أنه طرح إليه بعض الملحدين هذا الكلام الذي خرج منه، فيدلني عليهم فأستبيحهم، وإلا فأنا على يقين أن القرشي لا يتزندق. قال رجل من قواد هارون: دخلت على هارون وبين يديه رجل مضروب العنق، ورجل معه سيف ملطخ بالدم يمسحه على قفاه، ففزعت لما رأيته فقال: متلت هذا الرجل لأنه كان يقول: القرآن مخلوق، تقربت إلى الله بدمه. قال أبو بكر بن عياش: قلت لهارون: يا أمير المؤمنين، انظر هذه العصابة الذين يحبون أبا بكر وعمر، ويفضلونهم فأكرمهم يعز سلطانك، ويقوى، فقال: أولست كذلك؟ أنا والله كذلك، أنا والله كذلك، أنا والله أحبهم، وأحب من يحبهم، وأعاقب من يبغضهم. جاء جنديان يسألان عن منزل أبي بكر بن عياش، قال: فقلت: ما تريدان منه؟ فقالا: أنت هو؟ قلت: نعم، فقالا: أجب الخليفة، قلت: أدخل ألبس ثوبي، قالا: ليس إلى ذلك سبيل، فأرسلت من جاءني بثيابي، ومضيت معهم إلى الرشيد بالحيرة، فدخلت عليه، فقال: لا أرنا إلا قد رعناك. إن أبا معاوية الضرير حدثني بحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يكون قوم بعدي ينبزون بالرافضة فاقتلوهم، فانهم مشركون، فوالله لئن كان حقاً لأقتلنهم. فلما رأيت ذلك خفت منه، فقلت: يا أمير المؤمنين، لئن كان ذلك فإنهم ليحبونكم أشد من نبي الله، وهم إليك أميل، فسري عنه، ثم أمر لي بأربع بدر، فأخذتها. ولقيني رجل منهم فقال: يا أبا بكر، أخذت الدراهم، ما عذرك عند الله؟ فقلت: عذري عند الله أني خلصت من القتل. دخل ابن السماك على هارون فقال: يا أمير المؤمنين، تواضعك في شرفك أشرف من شرفك. وقال له مرة: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل لم يجعل أحداً فوقك، فلا ينبغي أن يكون أحد أطوع لله عز وجل منك. قال ابن السماك: بعث إلي هارون فأتيته، فأخذني خصيان حتى انتهيا بي إليه في بهو، فقال لهما هارون: ارفقا بالشيخ، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما مر بي يوم منذ ولدتني أمي أنا أنصب فيه من يومي هذا، فاتق الله يا أمير المؤمنين، واعلم أن لك مقاماً بين يدي الله أنت فيه أذل من مقامي هذا بين يديك، فاتق الله في خلقه، واحفظ محمداً في أمته، وانصح نفسك في رعيتك، واعلم أن الله أخذ سطواته وانتقامه منأهل معاصيه بكم، فاضطرب على فراشه حتى وقع على مصلى بين يدي فراشه، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا ذل الصفة، فكيف لو رأيت ذل المعاينة، فكادت نفسه تخرج، وكان يحيى بن خالد إلى جنبه، فقال للخصيين: أخرجاه، فقد أبكى أمير المؤمنين. بعث هارون إلى محمد بن السماك، فقال له يحيى بن خالد: أتدري لم بعث إليك أمير المؤمنين؟ قال: لا أدري، قال له يحيى: بعث لما بلغه عنك من حسن دعائك للخاصة والعامة، فقال له ابن السماك: أما ما بلغ أمير المؤمنين عني ذلك فبستر الله الذي ستره علي، ولولا ستره لم يبق لنا ثناء، ولا التقاء على مودة، فالستر هو الذي أجلسني بين يديك يا أمير المؤمنين. إني والله ما رأيت وجهاً أحسن من وجهك، فلا تحرق وجهك بالنار، فبكى هارون بكاء شديداً، ثم دعا بماء فاستسقى، فأتي بقدح فيه ماء، فقال: يا أمير المؤمنين، أكلمك بكلمة قبل أن تشرب هذا الماء؟ قال: قل ما أحببت، قال: يا أمير المؤمنين، لو منعت هذه الشربة إلا بالدنيا وما فيها، أكنت تفتديها بالدنيا وما فيها حتى تصل إليك؟ قال: نعم، قال: فاشرب، بارك الله فيك. فلما فرغ من شربه قال له: يا أمير المؤمنين، أرأيت لو منعت إخراج هذه الشربة منك إلا بالدنيا وما فيها، أكنت تفتدي ذلك بالدنيا وما فيها؟ قال: نعم، قال: يا أمير المؤمنين، فما تصنع بشيء شربة ماء خير منه؟ فبكى هارون واشتد بكاؤه، فقال يحيى بن خالد: يا بن السماك، قد آذيت أمير المؤمنين، فقال له: وأنت يا يحيى فلا تغرنك رفاهية العيش ولينه. قال يحيى بن خالد لابن السماك: إذا دخلت على هارون أمير المؤمنين فأوجز، ولا تكثر عليه، فدخل عليه، وقام بين يديه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لك بين يدي الله مقاماً، وإن لك من مقامك منصرفاً، فانظر إلى أين منصرفك: إلى الجنة أم إلى النار، فبكى هارون حتى كاد أن يموت. قال الفضيل بن عياض: لما قدم الرشيد بعث إلي، فذكر الحديث بطوله وقال: عظنا بشيء من علم، فقلت له: يا حسن الوجه، حساب هذا الخلق كلهم عليك، فجعل يبكي، ويشهق، قال: فرددتها عليه: يا حسن الوجه، حساب هذا الخلق كلهم عليك، فأخذني الخدم، فأخرجوني، وقالوا: اذهب بسلام. قال الأصمعي: كنت عند الرشيد يوماً، فرفع إليه في قاض كان استقضاه يقال له: عافية فكبر عليه، فأحضره، وفي المجلس جمع، فجعل يخاطبه، ويوقفه على ما رفع إليه، وطال المجلس، ثم إن أمير المؤمنين عطس فشمته من كان بالحضرة ممن قرب منه سواه، فإنه لم يشمته، فقال له الرشيد: ما بالك لم تشمتني كما فعل القوم؟! فقال له عافيه: لأنك يا أمير المؤمنين لم تحمد الله، ولذلك لم أشمتك، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عطس عنده رجلان، فشمت أحدهما، ولم يشمت الآخر، فقال: يا رسول الله، ما بالك شمت ذاك، ولم تشمتني؟ قال: لأن هذا حمد الله، فشمتناه، وأنت فلم تحمد الله فلم نشمتك، فقال له الرشيد: ارجع إلى عملك، أنت لم تسامح في عطسة تسامح في غيرها؟ وصرفه منصرفاً جميلاً، وزبر القوم الذين رفعوا عليه. قال عبد الله بن عبد العزيز العمري: قال لي موسى بن عيسى: ينتهي إلى أمير المؤمنين الرشيد أنك تشتمه، وندعو عليه، فبأي شيء استجزت ذلك منه يا عمري؟ قال: قلت: أما في شتمه، فهو والله أكرم علي من نفسي، وأما في الدعاء عليه، فو الله ما قلت: اللهم إنه قد أصبح عبئاً ثقيلاً على أكتافنا، لا تطيقه أبداننا، وقذى في عيوننا، لا تطرف عليه جفوننا، وشجاً في أفواهنا، لا تسيغه حلوقنا، فاكفنا مؤنته، وفرق بيننا وبينه، ولكني قلت: اللهم، إن كان قد تسمى بالرشيد ليرشد، فأرشده أو لغير ذلك فراجع به، اللهم، إن له في الإسلام بالعباس على كل مسلم حقاً، وله بنبيك قرابةً ورحماً، فقربه من كل خير، وبعده من كل شر، وأسعدنا به، وأصلحه لنفسه ولنا، فقال موسى: يرحمك الله يا أبا عبد الرحمن، كذلك لعمري كان ما فعلت. قال أبو معاوية: أكلت مع الرشيد هارون طعاماً يوماً، فصب على يدي رجل لا أعرفه، فقال الرشيد: يا أبا معاوية، هل تدري من يصب على يديك؟ قلت: لا، قال: أنا، قلت: أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، إجلالا للعلم. قال يحيى بن أكثم: قال لي الرشيد: ما أنبل المراتب؟ قلت: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين، قال: فتعرف أجل مني؟ قلت: لا، قال: لكني أعرفه، رجل في حلقة يقول: حدثنا فلان عن فلان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... قلت: يا أمير المؤمنين، هذا خير منك وأنت ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وولي عهد المسلمين؟ قال: نعم، ويلك،، هذا خير مني لأن اسمه مقترن باسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يموت أبدا، نحن نموت ونفنى، والعلماء باقون ما بقي الدهر. قال يحيى بن أكثم: قال لي الرشيد: ما أنبل المراتب؟ قلت: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين، قال: فتعرف أجل مني؟ قلت: لا، قال: لكني أعرفه، رجل في حلقة يقول: حدثنا فلان عن فلان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... قلت: يا أمير المؤمنين، هذا خير منك وأنت ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وولي عهد المسلمين؟ قال: نعم، ويلك، هذا خير مني لأن اسمه مقترن باسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يموت أبدا، نحن نموت ونفنى، والعلماء باقون ما بقي الدهر. حدث أبو زرعة عن أبيه قال: كنا بالرقة وبيوتات الأموال تنقل إلى هارون الرشيد، فقدرناها أربعة آلاف وست مئة جمل، ألف وست مئة منها ذهب، وثلاثة آلاف ورق. قال الأصمعي: دخلت على هارون الرشيد يوم الجمعة، وهو يقلم أظفاره، فقلت له في ذلك: فقال: أخذ الأظفار يو الخميس من السنة. وبلغني أن أخذها يوم الجمعة ينفي الفقر. فقلت: يا أمير المؤمنين، وتخشى أنت أيضا الفقر؟ فقال: يا أصمعي، وهل أحد أخشى للفقر مني؟ حدث إبراهيم بن المهدي قال: كنت أتغدى مع الرشيد في يوم شات، فسأل صاحب المطبخ: هل عنده برمة من لحم الجزور، فأعلمه أنه عنده ألواناً منه، فأمره بإحضاره، فقدمت إليه صحفة، فأدخل لقمة منها في فيه، وحرك لحيته عليها مرتين، فضحك جعفر بن يحيى، فسأله الرشيد عن ضحكه، وأمسك عن المضغ، فقال: ذكرت كلاماً دار بيني وبين جاريتي البارحة، فضحكت، فقال الرشيد: هذا محال، فأخبرني بحقي عليك، قال إذا ابتلعت لقمتك حدثتك، فألقى لقمته من فيه تحت المائدة، فقال له جعفر: بكم يتوهم أمير المؤمنين أن هذا اللون يقوم عليه؟ فقال له الرشيد: أتوهمه يقوم بأربعة دراهم، فقال جعفر: إنه يقوم عليك بأربع مئة ألف درهم، قال: كيف؟ ويحك! فقال جعفر: سأل أمير المؤمنين صاحب المطبخ من أكثر من أربع سنين عن برمة من لحم جزور، فلم يجدها، فأنكر أمير المؤمنين ذلك علي وقال: لا يفت مطبخي لون يتخذ من لحم جزور في كل يوم، فأنا منذ ذلك اليوم أنحر جزوراً في كل يوم، فإن الخلفاء لا نبتاع لهم لحم الجزور من السوق، ولم يدع أمير المؤمنين بشيء من لحمها غلا يومه هذا. وكان الرشيد في أول طعامه، وكان أشد خلق الله تقززاً، فضرب الرشيد بيده اليمنى وجهه وفيها الغمر، ومد بها لحيته، ثم قال: هلكت ويلك يا هارون، واندفع يبكي، ورفعت المائدة، وطفق يبكي حتى آذنه المؤذنون بصلاة الظهر، فتهيأ للصلاة ثم أمر أن يحمل للحرمين ألفي ألف درهم يفرق في كل حرم ألف ألف، وأن يفرق في كل جانب من جانبي بغداد خمس مئة ألف درهم، وأن يفرق في كل مدينة من الكوفة والبصرة خمس مئة ألف درهم، وقال: لعل الله أن يغفر لي هذا الذنب، وصلى الظهر وعاد إلى مكانه يبكي إلى العصر، وقام فصلى، وعاد إلى مكانه إلى أن قرب ما بين العصر والمغرب، فأخبره القاسم بن الربيع أن أبا يوسف القاضي بالباب، فأذن له، فدخل، وسلم، فلم يرد عليه، وأقبل يقول: يا يعقوب، هلك هارون، فسأله عن القصة، فقال: يخبرك جعفر، وعاد لبكائه، فحدثه جعفر عن الجزور التي تنحر كل يوم، ومبلغ ما أنفق من الأموال، فقال له أبو يوسف: هذه الإبل التي كانت تبتاع كانت تترك إذا نحرت حتى تفسد وتنتن، ولا تؤكل لحومها، فيرمى بها؟ قال جعفر: اللهم، لا، قال أبو يوسف: فما كان يصنع بها؟ قال: يأكلها الحشم والموالي وعيال أمير المؤمنين، فقال أبو يوسف: الله أكبر، أبشر يا أمير المؤمنين بثواب الله على نفقتك، وعلى ما فتح لك من الصدقة في يومك هذا، ومن البكاء للتقية من ربك، فإني لأرجو ألا يرضى الله من ثوابه على ما داخلك من الخوف من سخطه عليك إلا بالجنة، فإنه عز وجل يقول: " ولمن خاف مقام ربه جنتان " وأنا أشهد أنك خفت مقام ربك، فسري عن الرشيد وطابت نفسه، ووصل أبا يوسف بأربع مئة ألف درهم، وصلى المغرب ودعا بطعامه وأكل، فكان غداؤه في اليوم عشاءه. قال عمرو بن بحر: اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لأحد من جد ولا هزل: وزراؤه البرامكة، لم ير مثلهم سخاء وسرواً، وقاضيه أبو يوسف، وشاعره مروان بن أبي حفصة، كان في عصره كجرير في عصره، ونديمه عم أبيه العباس بن محمد صاحب العباسية، وحاجبه الفضل بن الربيع أتيه الناس وأشده تعاظماً، ومغنيه إبراهيم الموصلي واحد عصره في صناعته، وضاربه زلزل، وزامره برصوما، وزوجته أم جعفر أرغب الناس في خير، وأسرعهم إلى كل بر، أدخلت الماء الحرم بعد امتناعه، إلى أشياء من المعروف. كان عبيد الله بن ظبيان قاضي الرقة، وكان الرشيد إذ ذاك بها، فجاء رجل فاستعذر عليه من عيسى بن جعفر، فكتب إليه ظبيان: أما بعد. أبقى الله الأمير وحفظه، أتاني رجل ذكر أنه فلان بن فلان، وأن له على الأمير - أبقاه الله - خمس مئة ألف درهم، فإن رأى الأمير حفظه الله أن يحضر معه بمجلس الحكم أو يوكل وكيلاً يناظر خصمه فعل، ودفع بالكتاب إلى الرجل، فأتى به باب عيسى بن جعفر، ودفع الكتاب إلى حاجبه، فأوصله إليه، فقال: كل هذا الكتاب، فرجع إلى القاضي فأخبراه، فكتب إليه: أبقاك الله وحفظك وأمتع بك، حضر رجل يقال له فلان بن فلان، فذكر أن له عليك حقاً فصر به معه إلى مجلس الحكم أو وكيلك، إن شاء الله، ووجه بالكتاب مع عونين من أعوانه، فحضرا باب عيسى، ودفعا الكتاب إليه، فغضب، ورمى به، فانطلقا فأخبره، فكتب إليه: حفظك الله، وأبقاك، وأمتع بك، لا بد من أن تصير أنت وخصمك إلى مجلس الحكم، فإن أبيت أنهيت أمرك إلى أمير المؤمنين، ووجه بالكتاب مع عدلين، فقعدا على باب عيسى حتى خرج، فقاما إليه، ودفعا إليه كتاب القاضي، فلم يقرأه، ورمى به، فأبلغاه ذلك، فختم قمطره وانصرف، وقعد في بيته، فبلغ الخبر الرشيد، فدعاه، وسأله عن أمره، فأخبره بالقصة عن آخرها، حرفاً حرفاً، فقال لإبراهيم بن عثمان: صر إلى باب عيسى بن جعفر، واختم عليه أبوابه كلها، ولا يخرجن أحد، ولا يدخلن أحد عليه حتى يخرج إلى الرجل من حقه أو يصير معه إلى الحاكم، فأحاط إبراهيم بداره، ووكل بها خمسين فارساً، وغلقت أبوابه، فظن عيسى أنه قد حدث للرشيد رأي في قتله، ولم يدر ما سبب ذلك، وجعل يكلم الأعوان من خلف الباب، وارتفع الصياح من داره، وصرخ النساء، فأمرهن أن يسكتن، وقال لبعض غلمان إبراهيم: ويلك ما حلنا؟ فأخبره خبر ابن ظبيان، فأمر أن يحضر خمس مئة ألف درهم من ساعته، وتدفع إلى الرجل، فجاء إبراهيم إلى الرشيد، فأخبره، فقال: إذاً قبض الرجل ماله فافتح أبوابه. قال بشر بن الوليد: كنت عند أبي سفيان يعقوب بن إبراهيم القاضي، فحدثنا بحديث طريف قال: بينا أنا البارحة أويت إلى فراشي فإذا داق يدق الباب، فخرجت فإذا هرثمة بن أعين قال: أجب أمير المؤمنين، فقلت: يا أبا حاتم، بي لك حرمة، فإن أمكنك أن تدفع بذلك إلى الغد، فلعله أن يحدث له رأي، فقال: ما لي إلى ذلك سبيل، قلت: تأذن لي أن أصب علي ماء وأتحنط؟ فإن كان أمر من الأمور كنت قد أحكمت شأني، وإن رزق الله العافية فلن يضر، فدخلت وفعلت ما أردت، ومضينا، فإذا مسرور واقف، فقال له هرثمة: قد جئت به. قال: فقلت لمسرور: يا أبا هاشم، هذا وقت ضيق، فتدري لم طلبني أمير المؤمنين؟ قال: لا، قلت: فمن عنده؟ قال: عيسى بن جعفر، قلت: ومن؟ قال: ما عنده ثالث، قال: مر، فإذا صرت إلى الصحن فإنه في الرواق، وهو ذلك جالس، فحرك رجلك بالأرض، فإنه سيسألك، فقل: أنا. ففعلت، فقال: من؟ قلت: يعقوب، قال: ادخل، فدخلت، فإذا هو جالس وعنده عيسى بن جعفر، فسلمت، فرد وقال: أظننا روعناك، قلت: إي والله، وكذلك من خلفي. قال اجلس، ثم التفت إلي فقال: يا يعقوب، تدري لما دعوتك؟ قلت: لا، قال: دعوتك لأشهدك على هذا، إن عنده جارية سألته أن يهبها لي فامتنع، وسألته أن يبيعها فأبى، والله لئن لم يفعل لأقتلنه، قال: فالتفت إلى عيسى، وقلت: وما بلغ الله بجارية تمنعها أمير المؤمنين، وتنزل نفسك هذه المنزلة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ فقال لي: عجلت علي في القول قبل أن تعرف ما عندي: إن علي يميناً بالطلاق والعتاق وصدقة ما أملك ألا أبيع هذه الجارية، ولا أهبها، فالتفت إلي الرشيد فقال: هل له في ذلك من مخرج؟ قلت: نعم، يهب لك نصفها، ويبيعك نصفها، فيكون لم يبع ولم يهب. قال عيسى: ويجوز ذلك؟ قلت: نعم. قال: فأشهدك أني قد وهبت له نصفها، وبعته النصف الباقي بمئة ألف دينار، فقال: الجارية، فأتي بالجارية وبالمال، فقال: خذها يا أمير المؤمنين، بارك الله لك فيها. قال: يا يعقوب، بقيت واحدة، قلت: ما هي؟ قال: هي مملوكة، ولا بد أن تستبرأ، ووالله إن لم أبت معها ليلتي أظن نفسي ستخرج، قلت: يا أمير المؤمنين، تعتقها، وتتزوجها، فإن الحرة لا تستبرأ، قال: فإني قد أعتقتها، فمن يزوجنيها؟ قلت: أنا، فدعا بمسرور وحسين، فخطبت وحمدت الله، ثم زوجته على عشرين ألف دينار، ودعا بالمال فدفعه إليها ثم قال: يا يعقوب، انصرف، وقال: يا مسرور، احمل إلى يعقوب مئتي ألف درهم، وعشرين تختاً ثياباً، فحمل ذلك معي. قال بشر بن الوليد: فالتفت إلى يعقوب فقال: هل رأيت بأساً فيما فعلت؟ قلت: لا، قال: فخذ منها حقك، قلت: وما حقي؟ قال: العشر، فشكرته، وذهبت لأقوم، فإذا بعجوز قد دخلت فقالت: يا أبا يوسف، بنتك تقرئك السلام، وتقول لك: ما وصل إلي في ليلتي هذه من أمير المؤمنين إلا المهر الذي عرفته، وقد حملت إليك النصف منه، وخلفت الباقي لما أحتاج إليه، فقال: رديه، فوالله لا قبلتها، أخرجتها من الرق، وزوجتها أمير المؤمنين وترضى لي بهذا، فلم نزل نطلب إليه أنا وعمومتي حتى قبلها، وأمر لي منها بألف دينار. كان حماد بن موسى صاحب أمر محمد بن سليمان والغالب عليه، فحبس سوار القاضي رجلاً في بعض ما يحبس فيه القضاة، فبعث حماد فأخرج الرجل من الحبس، فخاصمه إلى سوار فأخبره أن حماداً أخرج الرجل من الحبس، فركب سوار حتى دخل على محمد بن سليمان، وهو قاعد للناس، والناس على مراتبهم، فجلس حيث يراه محمد، ثم دعا قائداً من قواده، فقال: أسامع أنت أم مطيع؟ قال: نعم، قال: اجلس ها هنا فأقعده عن يمينه، ودعا آخر من نظرائه ففعل به ما فعل بالأول، فعل ذلك بجماعة من قواد سليمان ثم قال لهم: انطلقوا إلى حماد بن موسى فضعوه في الحبس، فنظروا إلى محمد بن سلمان فأعلموه ما أمرهم، فأشار إليهم أن افعلوا ما يأمركم، فانطلقوا إلى حماد فوضعوه في الحبس، وانصرف سوار إلى منزله، فلما كان بالعشي أراد محمد بن سليمان الركوب إلى سوار، فجاءته الرسل، فقالوا: إن الأمير على الركوب إليك، فقال: ا، نحن أولى بالركوب إليه، فركب إليه، فقال: كنت على المجيء إليك يا أبا عبد الله، فقال: ما كنت لأجشم الأمير ذلك، قال: بلغني ما صنع هذا الجاهل حماد، قال: هو ما بلغ الأمير، قال: فأحب أن تهب لي ذنبه، قال: أفعل أيها الأمير، اردد الرجل إلى الحبس، قال: نعم، بالصغر له والقماء، فوجه إلى الرجل فحبسه، وأطلق حماداً، وكتب بذلك صاحب الخبر إلى الرشيد، فكتب إلى سوار يحمده على ما صنع، وكتب إلى محمد بن سليمان كتاباً غليظاً يذكر فيه حماد ويقول: الرافضي ابن الرافضي، والله لولا أن الوعيد أمام العقوبة ما أدبته إلا بالسيف ليكون عظة لغيره، ونكالاً، يفتات على قاضي المسلمين في رأيه، ويركب هواه لموضعه منك، ويتعرض في الأحكام استهانة بأمر الله وإقداماً على أمير المؤمنين؟! وما ذلك إلا بك، وبما أرخيت من رسنه. تالله لئن عاد إلى مثلها ليجدني أغضب لدين الله، وأنتقم من أعدائه لأوليائه. كان الرشيد يقول: أنا من أهل بيت عظمت رزيتهم، وحسنت بقيتهم، رزئنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبقيت فينا خلافة الله عز وجل. بينما الرشيد هارون يطوف بالبيت إذ عرض له رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أكلمك بكلام فيه غلظة فاحتمله لي، فقال: لا، ولا نعمة عين ولا كرامة، قد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني فأمر أن يقول له قولاً ليناً. قال منصور بن عمار: ما رأيت أغزر دمعاً عند الذكر من ثلاثة: فضيل بن العياض، وأبو عبد الرحمن الزاهد، وهارون الرشيد. قال شعيب بن حرب: بينا أنا في طريق مكة إذ رأيت هارون الرشيد، فقلت لنفسي: قد وجب عليك الأمر والنهي، فقالت لي: لا تفعل، فإن هذا الرجل جبار، ومتى أمرته ضرب عنقك، فقلت لنفسي: لابد من ذلك. فلما دنا مني صحت: يا هارون، قد أتعبت الأمة، وأتعبت البهائم، فقال: خذوه، فأدخلت عليه، وهو على كرسي وبيده عمود يلعب به، فقال: ممن الرجل؟ قلت من أفناء الناس، قال: ممن ثكلتك أمك؟ قلت: من الأبناء، قال: ما حملك على أن تدعوني باسمي؟! قال شعيب: فورد على قلبي كلمة ما خطرت لي قط على بال، قلت: أنا أدعو الله باسمه، فأقول: يا الله، يا رحمن، لا أدعوك باسمك؟ وما تنكر من دعائي باسمك؟ وقد رأيت الله سمى في كتابه أحب الخلق إليه محمداً، وكنى أبغض الخلق إليه: أبا لهب فقال: " تبت يدا أبي لهب " فقال: أخرجوه، فأخرجوني. قال ابن السماك: قلت للرشيد هارون: يا أمير المؤمنين، إنك تموت وحدك، وتقبر وحدك، فاحذر المقام بتن يدي الجبار، والوقوف بين الجنة والنار، فإنك لا تقدم إلا على قادم مشغول، ولا يخلف إلا جاهل مغرور، يا أمير المؤمنين، إنما هو دبيب من سقم حتى يؤخذ بالكظم، وتزل القدم، ويقع الندم، فلا توبة تنال، ولا عثرة تقال، ولا يقبل فداء بمال، فجعل أمير المؤمنين يبكي حتى علا صوته، فالتفت إلي يحيى بن خالد فقال: قم، فقد شققت على أمير المؤمنين منذ الليلة، فقمت وأنا أسمع بكاءه. لما لقي الرشيد هارون الفضيل بن العياض، قال له الفضيل: يا حسن الوجه، أنت المسؤول عن هذه الأمة، قال مجاهد: " وتقطعت بهم الأسباب " قال: الوصل التي كانت بينهم في الدنيا، فجعل هارون يبكي. حج هارون وكان يأنس بسفيان بن عيينة، فقال لسفيان: أشتهي أن أرى الفضيل بن العياض، وأسمع كلامه، فقال له سفيان: إن علم أنك أمير المؤمنين لم ينبسط، قال: فكيف الوجه فيه؟ قال: نذهب إليه جميعاً وأنت متنكر، فمضيا، فقام سفيان على الباب، فقال: السلام عليك يا أبا علي، فقال الفضيل: من أنت؟ قال: سفيان، قال: ادخل يا أبا محمد، قال سفيان: ومن معي؟ قال: ومن معك، فدخلا، فأقبل الفضيل على سفيان فتحدثا ساعة، فقال له سفيان: يا أبا علي، هذا الفتى تعرفه؟ فنظر إليه فقال سفيان: هذا هارون أمير المؤمنين، فنظر إليه الفضيل فقال: يا حسن الوجه، قد قلدت أمراً عظيماً، فاتق الله في نفسك، وكان هارون من أحسن الناس وجهاً. قال الأصمعي: بعث إلي الرشيد، وقد زخرف مجلسه وبالغ فيها وفي بنائها، وصنع فيها طعاماً كثيراً، ثم وجه إلى أبي العتاهية فأتاه فقال: صف لنا ما نحن فيه من نعيم الدنيا. فأنشأ يقول: مجزوء الكامل عش ما بدا لك سالماً ... في ظل شاهقة القصور فقال: أحسنت ثم ماذا؟ فقال: يسعى عليك بما اشتهيت ... لدى الرواح وفي البكور فقال: ثم ماذا؟ فقال: فإذا النفوس تقعقعت ... في ضيق حشرجة الصدور فهناك تعلم موقناً ... ما كنت إلا في غرور فبكى هارون، فقال الفضل بن يحيى: بعث إليك أمير المؤمنين لتسره، فأحزنته، فقال هارون: دعه، فإنه رآنا في عمىً فكره أن يزيدنا عمىً. قال أبو العتاهية: دخلت على هارون الرشيد، فقال لي: أبو العتاهية؟ قلت: أبو العتاهية، قال: الذي يقول الشعر؟ قلت: الذي يقول الشعر، قال: عظني وأوجز، فقال: البسيط لا تأمن الموت في طرف ولا نفس ... وإن تمنعت بالحجاب والحرس واعلم بأن سهام الموت قاصدة ... لكل مدرع منا ومترس ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس قال: فخر مغشياً عليه. جاء هارون الرشيد إلى باب عبد الله بن المبارك فاستأذن، فلم يأذن له، فكتب هارون في رقعة: الخفيف هل لذي حاجة إليك سبيل ... لا طويل قعوده بل قليل فكتب ابن المبارك على ظهر رقعته: أنت يا صاحب الكتاب ثقيل ... وقليل من الثقيل طويل لما حبس الرشيد أبا العتاهية جعل عليه عيناً يأتيه بما يقول، فوجده يوماً قد كتب على الحائط: الوافر أما والله إن الظلم لؤم ... وما زال المسيء هو الظلوم إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم فأخبره بذلك الرشيد، فبكى، ودعا به، فاستحله، ووهب له ألف دينار. خرج الرشيد في بعض متنزهاته، فانفرد من الناس على نحو ميل، فرفع له خباء مضروب، فأمه، فإذا فيه أعرابي، فسلم عليه الرشيد، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا من أبغض الناس إلى الناس، فقال الأعرابي:؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ أنت إذاً من معد، فمن أي معد؟ قال: من أبغض معد إلى معد، قال: أنت إذاً من مضر، فمن أي مضر أنت؟ قال: من أبغض مضر إلى مضر، قال: أنت إذاً من كنانة، فمن أي كنانة أنت؟ قال: من أبغض كنانة إلى كنانة، قال: إذاً أنت من قريش، فمن أي قريش أنت؟ قال: من أبغض قريش إلى قريش، قال: أنت إذاً من بني هاشم، فمن أي بني هاشم؟ قال: من أبغض بني هاشم إلى بني هاشم، قال: أنت إذاً من ولد العباس، فمن أي ولد العباس أنت؟ قال: من أبغض بني العباس إلى العباس، فوثب الأعرابي قائماً وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، وتوافت الجيوش، فقال الرشيد: احملوه قاتله الله ما أذهنه. قال سفيان بن عيينة: دخلت على هارون أمير المؤمنين فقال: أي شيء خبرك يا سفيان؟ فقلت: الوافر بعين الله ما تخفي البيوت ... فقد طال التحمل والسكوت فقال: يا فلان، مئة ألف لابن عيينة، تغنيه، وتغني عقبه، ولا ينقص بيت مال المسلمين من ذلك. قال شبيب: كنا في طريق مكة، فجاء أعرابي في يوم صائف شديد الحر، ومعه جارية له سوداء، وصحيفة، فقال: أفيكم كاتب؟ قلنا: نعم، وحضر غداؤنا،؟؟؟ فقلنا له: لو أصبت من طعامنا، فقال: إني صائم، فقلنا له: أفي هذا الحر الشديد، وجفاء البادية تصوم؟! فقال: إن الدنيا كانت ولم أكن فيها، وتكون ولا أكون فيها، وإنما لي منها أيام قلائل، وما أحب أن أغير أيامي، ثم نبذ إلينا الصحيفة، فقال: اكتب، ولا تزيدن على ما أقول حرفاً: هذا ما أعتق عبد الله بن عقيل الكلابي جارية له سوداء يقال لها: لؤلؤة ابتغاء وجه الله، وجواز العقبة العظمى، وإنه لا سبيل لي عليها إلا سبيل الولاء والمنة لله الواحد القهار، قال الأصمعي: فحدثت بهذا الحديث الرشيد، فأمر أن يشترى له ألف نسمة ويعتقون، ويكتب لهم هذا الكتاب. قال الأصمعي: قدم الرشيد هارون البصرة يريد الخروج إلى مكة، فخرجت معه، فلما صرنا بضرية فإذا أنا على شفير الوادي بصبية قدامها قصعة لها، وإذا هي تقول: الخفيف طحطحتنا طحاطح الأعوام ... ورمتنا حوادث الأيام فأتيناكم نمد أكفاً ... لفضالات زادكم والطعام فاطلبوا الأجر والمثوبة فينا ... أيها الزائرون بيت الحرام من رآني فقد رآني ورحلي ... فارحموا غربتي وذل مقامي فأخبرت أمير المؤمنين، وأنشدته ما قالت، فعجب، فقلت: آتيك بها؟ قال: بل نذهب إليها، فوقف عليها، فقلت لها: أنشديه ما كنت تقولينه، فأنشدته ولم تهبه، فقال: يا مسرور، املأ قصعتها دنانير، فملأها حتى فاضت. قال أبو عبيدة: حج الرشيد على طريق البصرة، فمر منفرداً ومعه الفضل بن الربيع فإذا بأعرابيين على قعودين لهما، فقال أحدهما: الرجز يا أيها المجمع هماً لاتهم ... إنك إن تقض إلى الحمى تحم كيف توقيك وقد جف القلم ... وحطت الصحة منك والسقم فقال الرشيد للفضل: يا عباسي، قل للمنشد يعيد، فقال الفضل: يا صاحب الشعر، أعد، فقال: لو قال لي هذا لفعلت - يعني الرشيد - قال الفضل: فهممت بالإقبال عليه، فغمزني الرشيد بالصبر، فقلت له: ولم لا تجيبني؟ فقال لي: الطويل إذا ما رأى الناس الجواد ومقرفاً ... إذا حربا قالوا جواد ومقرف فقال الرشيد: يا عباسي، ادع لي أقرب الخدم منك، فدعوت خادماً، فقال له الرشيد: ما معك؟ قال: أربع مئة درهم، قال: ادفعها إلى المنشد، فأخذها، فضرب الآخر بيده على كتف صاحبه ثم قال: الوافر وكنت جليس قعقاع بن عمرو ... ولا يشقى بقعقاع جليس فقال الرشيد: يا عباسي، ادع لي أقرب الخدم منك، فدعوت خادماً، قال الرشيد: ما معك؟ قال: مئتا دينار، قال: ادفعها إلى المتمثل، فدفعها إليه. قال أبو عبيدة: فسألني الفضل: ما قصة القعقاع؟ فقلت: أهدي إلى معاوية هدايا يوم المهرجان، فيها جامات ذهب وفضة، فدفع معاوية الجامات إلى جلسائه، ودفع إلى القعقاع جام ذهب، وفي القوم أعرابي لم يعط شيئاً، وهو إلى جانب القعقاع، فدفع القعقاع إليه الجام، فأخذه الأعرابي ونهض، وهو يقول: وكنت جليس قعقاع بن عمرو ... ولا يشقى بقعقاع جليس قال أبو محمد الزيدي: دخلت على الرشيد، فوجدته منكباً ينظر في ورقة فيها مكتوب بالذهب، فتبسم فقلت: فائدة، أصلحك الله، قال: نعم، وجدت هذين البيتين في بعض خزائن بني أمية فاستحسنتهما، وقد أضفت إليهما ثالثاً، وأنشدني: الطويل إذا سد باب عنك من دون حاجة ... فدعه لأخرى ينفتح لك بابها فإن قراب البطن يكفيك ملؤه ... ويكفيك سوآت الأمور اجتنابها فلا تك مبذالاً لعرضك واجتنب ... ركوب المعاصي يجتنبك عقابها قال الفضل بن الربيع: خرج الرشيد من عند زبيدة - وقد تغدى عندها ونام - وهو يضحك، فقلت: قد سرني سرور أمير المؤمنين، فقال: ما أضحك إلا تعجباً: أكلت عند هذه المرأة، ونمت، وسمعت رنة فقلت: ما هذا؟ قالوا: ثلاث مئة ألف دينار، وردت من مصر، فقالت: هبها لي يا بن عم، فدفعتها إليها، فما برحت حتى عربدت وقالت: أي خير رأيت منك!. قال الأصمعي: سمعت بيتين لم أحفل بهما، قلت: هما على كل حال خير من موضعهما من الكتاب، فإني عند الرشيد يوماً وعنده عيسى بن جعفر، فأقبل علي مسرور الكبير، فقال: يا مسرور، كم في بيت مال السرور؟ قال: ليس فيه شيء، فقال عيسى: هذا بيت الحزن، قال: فاغتنم الرشيد، وأقبل على عيسى فقال: والله لتعطين الأصمعي سلفاً على بيت مال السرور ألف دينار، فاغتم عيسى وانكسر، فقلت في نفسي: جاء موضع البيتين فأنشدت الرشيد: الطويل إذا شئت أن تلقى أخاك معبساً ... وجداه في الماضين كعب وحاتم فكشفه عما في يديه فإنما ... تكشف أخبار الرجال الدراهم قال: فتجلى عن الرشيد وقال: يا مسرور، أعطه سلفاً على بيت مال السرور ألف دينار، قال: فأخذت بالبيتين ألفي دينار، وما كان البيتان يسويان عندي درهمين. قال الأصمعي: دخلت على هارون - ومجلسه حافل - فقال يا أصمعي، ما أغفلك عنا، وأجفاك لحضرتنا! قلت: يا أمير المؤمنين، ما ألاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك، فأمرني بالجلوس فجلست، وسكت. فلما تفرق الناس إلا أقلهم نهضت، فأقعدني حتى خلا، قال: يا أبا سعيد، ما ألاقتني؟ قلت: أمسكتني يا أمير المؤمنين، وأنشدت: كفاك كف ما تليق درهما ... جوداً وأخرى تعطي بالسيف الدما فقال: أحسنت، وهكذا فكن، وقر نا في الملأ، وعلمنا في الخلاء، وأمر لي بخمسة آلاف دينار. وقيل: إنه قال له: ما لاقتتني بعدك أرض. فلما خرج الناس قال له: ما معنى: ما لا قتتني أرض؟ قال: ما استقرت بي أرض، كما يقال: فلان لا يليق شيئاً أي: لا يستقر معه شيء، وقال له: هذا حسن، ولكن لا ينبغي أن تكلمني بين يدي الناس إلا بما أفهمه، فإذا خلوت فعلمني، فإنه إما أن أسكت فيعلم الناس أني لا أفهم، وإما أن أجيب بغير صواب، فيعلم الناس أني لم أفهم. قال الأصمعي: فعلمني أكثر مما علمته. مازح الرشيد أم جعفر فقال لها: كيف أصبحت يا أم نهر، فاغتمت لذلك، ولم تدر ما معناه، فوجهت إلى الأصمعي فسألته عن ذلك، فقال لها: الجعفر: النهر الصغير، وإنما ذهب إلى هذا، فسكنت نفسها. قال الأصمعي: دخلت على هارون الرشيد، فقال لي: إني أرقب ليلتي هذه، فقلت: لم، أنام الله عين أمير المؤمنين؟ قال: فكرت بالعشق مم هو؟ فلم أقف عليه، فصفه لي حتى أخاله جسماً، قال الأصمعي: لا والله ما كان عندي قبل ذلك منه شيء، فأطرقت ملياً ثم قلت: نعم يا سيدي، إذا توافقت الأخلاق المشاكلة، وتمازجت الأرواح المتشابهة ألفيت لمح نور ساطع يستضيء به العقل، وتنير لإشراقه طباع الجناة، ويتصور من ذلك النور خلق في النفس منصباً نحو جواهرها يسمى العشق. فقال: أحسنت والله، يا غلام، أعطه، وأعطه، فأعطيت ثلاثين درهم. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: دخلت على أمير المؤمنين الرشيد يوماً، فقال: أنشدني من شعرك، فأنشدته: الطويل وآمرة بالبخل قلت لها اقصري ... فذلك شيء ما إليه سبيل أرى الناس خلان الجواد ولا أرى ... بخيلاً به في العالمين خليل ومن خير حالات الفتى لو علمته ... إذا نال خيراً أن يكون ينيل عطائي عطاء المكثرين تكرماً ... وما لي كما قد تعلمين قليل وإني رأيت البخل يزري بأهله ... ويحقر يوماً أن يقال بخيل وكيف أخاف الفقر أو أحرم الفتى ... ورأي أمير المؤمنين جميل؟ فقال: لا كيف، إن شاء الله، يا فضل، أعطه مئة ألف درهم، لله در أبيات تأتينا بها، ما أحسن فصولها، وأثبت أصولها، فقلت: يا أمير المؤمنين، كلامك أجود من شعري، قال: أحسنت، يا فضل، أعطه مئة ألف أخرى. قال الرشيد للمفضل الضبي: ما أحسن ما قيل في الذئب، ولك هذا الخاتم الذي في يدي، وشراؤه ألف وست مئة دينار؟ فقال: قول الشاعر: الطويل ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع قال: ما ألقي هذا على لسانك إلا لذهاب الخاتم، وحلق به إليه، فاشترته أم جعفر بألف وست مئة دينار، وبعثت به إليه وقالت: قد كنت أراك تعجب به، فألقاه إلى الضبي وقال: خذه وخذ الدنانير، فما كنا نهب شيئاً ونرجع فيه. صنع الرشيد ذات ليلة بيتاً، واضطرب عليه الثاني، فقال: علي بالعباس بن الأحنف، فأتي به في جوف الليل على حال من الذعر عظيمة، فقال له الرشيد: لا ترع، قال: وكيف لا يكون ذلك وقد طرقت في منزلي في مثل هذا الوقت؟ فلم أخرج إلا والواعية فيه وأهلي لا يشكون في قتلي، فقال: أحضرتك لبيت قلته صعب علي أن أشفعه بمثله، قال: ما هو؟ قال: مجزوء الوافر جنان قد رأيناها ... فلم نر مثلها بشرا فقال العباس: يزيدك وجهها حسناً ... إذا ما زدته نظرا إذا ما الليل مال علي ... ك بالظلماء واعتكرا ودج فلم تر قمراً ... فأبرزها تر قمرا فقال الرشيد: أول ما يجب أن ندفع إليك ديتك، إذ نزل بك هذا الروع وبعيالك منا، فأمر له بعشرة آلاف درهم وصرفه. دخل العباس بن الأحنف على هارون الرشيد فقال له هارون: أنشدني أرق بيت قالته العرب، فقال: قد أكثر الناس في بيت جميل حيث يقول: الطويل ألا ليتني أعمى أصم تقودني ... بثنية لا يخفى علي كلامها فقال له هارون: أنت أرق منه حيث تقول: البسيط طاف الهوى في عباد الله كلهم ... حتى إذا مر بي من بينهم وقفا قال العباس: أنت أمير المؤمنين أرق قولاً مني ومنه حيث تقول: الوافر أما يكفيك أنك تملكيني ... وأن الناس كلهم عبيدي وأنك لو قطعت يدي ورجلي ... لقلت من الهوى أحسنت زيدي فأعجب بقوله وضحك. قال ابن المبارك: عشق هارون جارية، فأرادها، فذكرت أن أباه كان مسها، فشغف بها هارون حتى قال: الوافر أرى ماء وبي عطش شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود أما يكفيك أنك تملكيني ... وأن الناس كلهم عبيدي وأنك لو قطعت يدي ورجلي ... لقلت من الرضى أحسنت زيدي قال: فسأل أبا يوسف عنها، فقال: أو كلما قالت جارية تصدق؟ قال: ابن المبارك: فلا أدري ممن أعجب! من أمير المؤمنين حين رغب عنها، أو منها حين رغبت عن أمير المؤمنين، أو من أبي يوسف حين أمره بالهجم عليها. قال إبراهيم الموصلي: قال لي غلامي: بالباب رجل حائك يستأذن، فقلت: مالي ولحائك؟ قال: لا أدري غير أنه حلف بالطلاق لا ينصرف حتى يكلمك بحاجته، قال: فأذنت له، فدخل، فقلت: ما حاجتك؟ قال: أنا رجل حائك، وكان عندي بالأمس جماعة فتذاكرنا الغناء والمتقدمين فيه، فأجمع من حضر أنك رأس القوم وبندارهم وسيدهم في هذه الصناعة، فحلفت بطلاق ابنة عمي وأعز الخلق علي ثقة مني بكرمك على أن تشرب عندي غداً، وتغنيني، فإن رأيت جعلني الله فداك أن تمن على عبدك بذلك فعلت، فقلت له: أين منزلك؟ قال: في دور الصحابة، قلت: فصف للغلام موضعه وانصرف، فإني رائح إليك، فوصف للغلام. فلما صليت الظهر ركبت، وأمرت الغلام أن يحمل معه قنينة وقدحاً ومصلى وخريطة العود، وصرت إلى منزله، ودخلت فقام إلي الحاكة فقبلوا أطرافي، وعرضوا علي الطعام، فقلت: قد تقدمت في الأكل، فشربت من نبيذي، وتناولت العود، فقلت: اقترح علي، فقال: غنني بحياتي: الطويل يقولون لي لو كان بالرمل لم يمت ... نسيبة والطراق يكذب قيلها فغنيت، فقال: أحسنت جعلني الله فداك، ثم قلت: اقترح، فقال: غنني بحياتي: الطويل وخطا بأطراف الأسنة مضجعي ... وردا على عيني فضل ردائياً فغنيت، فقال: أحسنت جعلني الله فداك، ثم شربت وقلت: اقترح، فقال: غنني بحياتي: الطويل أحقاً عباد الله أن لست وارداً ... ولا صادراً إلا علي رقيب؟ فقلت: يا بن اللخناء، أنت بابن سريج أشبه منك بالحاكة، فغنيته، ثم قلت: والله إن عدت ثانية حلت امرأتك لغلامي قبل أن تحل لك، ثم انصرف، وجاء رسول أمير المؤمنين الرشيد فمضيت إليه من فوري، فقال: أين كنت؟ قلت: ولي الأمان؟ قال: ولك الأمان، فحدثته، فضحك وقال: هذا أنبل حائك على ظهر الأرض، ووالله لقد كرمت في أمره، وأحسنت إجابته، وبعث إلى الحائك، فاستنطقه، وساءله فاستطابه، واستظرفه، وأمر له بثلاثين ألف درهم. كتب هارون الرشيد إلى جارية له كان يحبها وكانت تبغضه: البسيط إن التي عذبت نفسي بما قدرت ... كل العذاب فما أبقت ولا تركت مازحتها فبكت واستعبرت جزعاً ... عني فلما رأتني باكياً ضحكت فعدت أضحك مسروراً بضحكتها ... حتى إذا ما رأتني ضاحكاً فبكت تبغي خلافي كما خبت براكبها ... يوماً قلوص فلما حثها بركت كأنها درة قد كنت أذخرها ... ليوم عسر فلما رمتها هلكت وأنشدوا هذه الأبيات لذؤيب. قال الأصمعي: ما رأيت أثر النبيذ في وجه الرشيد قط إلا مرة واحدة: فإني دخلت عليه أنا وأبو جعفر الشطرنجي، فرأيته خاثراً، فقال لنا: استبقا إلى بيت، بل إلى أبيات، فمن أصاب ما في نفسي فله عشرة آلاف درهم. وفي رواية قال: كان الرشيد يهوى عنان جارية الناطفي، وكانت صيانته لنفسه تمنعه منها. قال الأصمعي: فما رأيته قط متبذلاً إلا مرة، فإني دخلت إليه، وفي وجهه تخثر، وعنده أبو جعفر الشطرنجي، فقال لنا: استبقوا، فمن أصاب ما في نفسي فله عشرة آلاف درهم، فوقع في نفسي أنه يريد عنان - فقال أبو جعفر بن أبي حفص الشطرنجي بجرأة العميان: الخفيف مجلس ينسب السرور إليه ... لمحب ريحانه ذكراك فقال: أحسنت، يا فضل، أعطه عشرة آلاف درهم، ثم قال: قد حضرني بيت ثان، قال: هات، فأنشد: كلما دارت الزجاجة زادت ... هـ حنيناً ولوعة فبكاك قال: أحسنت، يا فضل، أعطه عشرة آلاف درهم. قال الأصمعي: فنزل بي ما لم ينزل بي قط مثله، إن ابن أبي حفص يرجع بعشرين ألف دهم وبفخر ذلك المجلس، وأرجع صفراً منهما جميعاً، ثم حضرني بيت، فقلت: يا أمير المؤمنين، قد حضرني ثالث، قال: هاته، فأنشأت أقول: لم ينلك المنى بأن تحضريني ... وتجافت أمنيتي عن سواك فقال: أحسنت، يا فضل، أعطه عشرين ألف درهم ثم قال هارون: قد حضرني رابع، فقلنا: إن رأى أمير المؤمنين أن ينشده فعل، فأنشأ يقول: فتمنيت أن يغشيني الله ... نعاسا لعل عيني تراك فقلنا: يا أمير المؤمنين، أنت أشعر منا، فجوائزنا لأمير المؤمنين، فقال: جوائزكما لكما، وانصرفا. قال أبو هفان: أهديت إلى الرشيد جارية في غاية الجمال والكمال، فخلا بها أياماً، وأخرج كل قينة من داره، واصطبح يوماً، فكان من حضر من جواريه للغناء والخدمة في الشراب وغيره زهاء ألفي جارية في أحسن زي، من كل نوع من أنواع الثياب والجواهر، واتصل الخبر بأم جعفر فغلظ عليها ذلك فأرسلت إلى علية تشكو إليها، فأرسلت إليها علية: لا يهولنك هذا، فوالله لأردنه، وأنا أعمل شعراً، وأصوغ فيه لحناً، وأطرحه على جواري، فلا تدعي عندك جارية إلا بعثت بها إلي وألبسيهن فاخر الثياب والحلي ليأخذن صوتاً مع جواري، ففعلت أم جعفر ما أمرتها. فلما جاء وقت العصر لم يشعر الرشيد إلا وعلية قد خرجت عليه من حجرتها، وأم جعفر قد خرجت من حجرتها معهما زهاء ألفي جارية من جواريهما وسائر جواري القصر، وكلهن في لحن واحد هزج صنعته علية: مجزوء الرجز منفصل عني وما ... قلبي عنه منفصل يا قاطعي اليوم لمن ... نويت بعدي أن تصل فطرب الرشيد، وقام على رجليه حتى استقبل أم جعفر علية، وهو على غاية السرور، وقال: لم أر كاليوم قط، ثم قال: يا مسرور، لا يبقين في بيت المال درهم إلا نثرته، فكان مبلغ ما نثر يومئذ ست آلاف ألف درهم، وما سمع بمثل ذلك اليوم قط. دخلت أعرابية على هارون الرشيد، فأخرج إليها ماردة وكانت ذات جمال وشكل، وكان الرشيد يحبها فأنشدته الأعرابية أشعاراً تمدحه ببعضها، وأنشدها الرشيد لنفسه في ماردة: الكامل وتنال منك بحد مقلتها ... ما لا ينال بحده النصل شغلتك وهي ككل منتصر ... لاقى محاسن وجهها شغل فلوجهها من وجهها قمر ... ولعينها من عينها كحل وإذا نظرت إلى محاسنها ... فلكل موضع نظرة قتل فقالت الأعرابية: يا أمير المؤمنين، ما أدري أيهم أحسن: الشعر، أو من قاله، أو من قيل فيه، فأمر لها بجائزة. كان الرشيد شديد الحب لهيلانة، وكانت قلبه ليحيى بن خالد، فدخل يوماً إلى يحيى قبل الخلافة، فلقيته في ممر، فأخذت بكمه فقالت: أما لنا منك يوم مرة؟ فقال لها: بلى، فكيف السبيل إلى ذلك، فقالت: تأخذني من هذا الشيخ، فقال ليحيى: أحب أن تهب لي فلانة، فوهبها له، وغلبت عليه، وكانت تكثر أن تقول: هي لانة، فسماها هيلانة. فأقامت عنده ثلاث سنين، وماتت، فوجد عليها وجداً شديداً، وأنشد: السريع أقول لما ضمنوك الثرى ... وجالت الحسرة في صدري اذهب فلا والله ما سرني ... بعدك شيء آخر الدهر كتب هارون الرشيد إلى جاريته الخيزرانة وهي بمكة: الخفيف نحن في أفضل السرور ولكن ... ليس إلا بكم يتم السرور عيب ما نحن فيه يا أهل ودي ... أنكم غبتم ونحن حضور فأجدوا في السير بل إن قدرتم ... أن تطيروا مع الرياح فطيروا فأجابته الخيزرانة: قد أتانا الذي وصفت من الشو ... ق فكدنا وما فعلنا نطير ليت أن الرياح كن يؤدين ... إليك الذي يجن الضمير لم أزل صبه فإن كنت بعدي ... في سرور فدام ذاك السرور أنشد عمران بن موسى المؤدب لهارون الرشيد في ثلاث حظيات كن عنده وهن قصف، وضياء، وخنث: الكامل ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان ما لي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني؟ ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه ملكن أعز من سلطاني اشتريت للرشيد هارون جارية مدينية، فأعجب بها، وأمر الربيع أن يبعث في حمل أهلها ومواليها لينصرفوا بجوائزها، وأراد بذلك تسريتها، فوفد إلى مدينة السلام ثمانون رجلا، ووفد معهم رجل من أهل العراق استوطن المدينة كان يهوى الجارية. فلما بلغ الرشيد خبرهم أمر الفضل أن يخرج إليهم ليكتب اسم كل رجل منهم وحاجته ففعل حتى بلغ إلى العراقي فقال له: حاجتك؟ قال: إن كتبتها وضمنت لي عرضها مع ما يعرض أنبأتك بها، فقال: أفعل ذلك، قال: حاجتي أن أجلس مع فلانة حتى تغنيني ثلاثة أصوات، وأشرب ثلاثة أرطال، وأخبرها بما تجن ضلوعي من حبها، فقال الفضل: إنه موسوس، قال: يا هذا، قد أمرت أن تكتب ما يقول كل واحد، فاكتب ما أقول، واعرضه، فإن أجبت إليه، وإلا فأنت في أوسع العذر. فدخل الفضل مغضباً، فقرأ على الرشيد ما كتب، وقال: يا أمير المؤمنين، فيهم واحد مجنون سأل ما أجل مجلس أمير المؤمنين عن التفوه به فيه، فقال: قل ولا تجزع، فقال: قال كذا وكذا، قال: قل له: بعد ثلاث احضر لينجز لك ما سألت، وأنت تتولى الاستئذان له، ودعا بخادم، وقال: امض إلى فلانة، وقل لها حضر رجل وذكر كذا وكذا، وأجبناه إلى ما سأل، فكوني على أهبة، ثم أدى الفضل الرسالة إليه، فانصرف وحضر في اليوم الثالث، وعرف الرشيد خبره، فقال: يلقى له بحيث أرى كرسي فضة، وللجارية كرسي ذهب، وتخرج إليه، ويحضر ثلاثة أرطال، فجلس الفتى والجارية بإزائه، فحدثها والرشيد يراهما، فقال للخادم: لم تدخل لتشتو وتصيف، فأخذ رطلاً، وخر ساجداً وقال: إذا شئت أن تغني فغني: الطويل خليلي عوجا بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند بأرضكما قصدا وقولا لها ليس الضلال أجازنا ... ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا غداً يكثر الباركون منا ومنكم ... وتزداد داري من دياركم بعدا فغنته، وشرب الرطل، وحادثها ساعة، فاستحثه الخادم، فأخذ الرطل بيده، وقال: غني جعلت فداك: الطويل تكلم منا في الوجوه عيوننا ... فنحن سكوت والهوى يتكلم ونغضب أحياناً ونرضى بطرفناوذلك فيما بيننا ليس يعلم فغنته، وشرب الرطل الثاني، وحادثته ساعة، فاستعجله الخادم، فخر ساجداً يبكي، وأخذ الرطل بيده، واستودعها الله، وقام على رجليه، ودموعه تستبق استباق المطر، وقال: إذا شئت غني: السريع أحسن ما كنا تفرقنا ... وخاننا الدهر وما خنا فليت ذا الدهر لنا مرة ... عاد لنا يوماً كما كنا فغنته الصوت، فقلب الفتى طرفه، فبصر بدرج في الصحن، فأمها، وتبعه الخدم، ليهدوه الطريق، ففاتهم، وصعد الدرجة وألقى نفسه إلى الأرض على رأسه، فخر ميتاً، فقال الرشيد: عجل الفتى، ولو لم يعجل لوهبتها له. قال عمار بن كثير الواسطي: سمعت الفضيل بن عياض يقول: ما من نفس أشد علي موتاً من هارون أمير المؤمنين، فلوددت أن الله زاد من عمري في عمره، فكبر ذلك علينا. فلما مات هارون، وظهرت تلك الفتن، وكان من المأمون ما حمل الناس على أن القرآن مخلوق، قلنا الشيخ أعلم بما تكلم به. قال إسماعيل بن فروخ: أنشدنا أمير المؤمنين الرشيد لنفسه، وقد صعب عليه الصعود في عقبة همذان، فقال: البسيط حتى متى أنا في حل وترحال ... وطول هم بإدبار وإقبال ونازح الدار ما ينفك مغترباً ... عن الأحبة لا يدرون ما حالي بمشرق الأرض طوراً ثم مغربها ... لا يخطر الموت من حرصي على بالي ولو قنعت أتاني الرزق في دعة ... إن القنوع الغنى لا كثرة المال قال زكريا بن سعد الوصيف: كان الرشيد ذات يوم في مقيله إذ رأى في منامه كأن رجلاً وقف على باب مجلسه، فضرب بيده إلى عود من الباب ثم أنشأ يقول: الطويل كأني بهذا القصر قد باد آهله ... وأقفر منه ربعه ومنازله وصار عميد القصر من بعد بهجة ... وملك إلى قبر عليه جنادله فلم يبق إلا ذكره وحديثه ... تبكي عليه بالعويل حلائله ثم خرج إلى طوس، فلما نزل حلوان العراق هاج به الدم، فأجمع المتطببون أن دواءه الجمار، فوجه إلى دهقان حلوان، فسأل عن النخل، فقال: ليس بهذا البلد نخلة إلا النخلتان اللتان على عقبة حلوان، فوجه إليهما من قطع إحداهما، فأكل هارون جمارها، فسكن عنه الدم، فترحل، فمر عليهما، فرأى على القائمة منهما مكتوباً: الخفيف أسعداني يا نخلتي حلوان ... وابكيا لي من صرف هذا الزمان أسعداني وأيقنا أن نحساً ... سوف يلقاكما فتفترقان ولعمري لو ذقتما حرق الفر ... قة أبكاكما الذي أبكاني فقال هارون: عز والله علي أن أكون أنا نحسهما، ولو علمت بهذا الكتاب ما قطعتها ولو تلفت نفسي. لما حضر هارون الرشيد الوفاة جاءت إحدى جواريه إليه تبكي عند رأسه، فرفع رأسه إليها، وأنشأ يقول: السريع باكيتي من جزع أقصري ... قد غلق الرهن بما فيه لما حضرت الرشيد الوفاة كان ربما غشي عليه فيفتح عينيه، فيغشى عليه، ثم نظر إلى الربيع واقفاً على رأسه فقال: يا ربيع الطويل أحين دنا ما كنت أرجو دنوه ... رمتني عيون الناس من كل جانب فأصبحت مرحوماً وكنت محسداً ... فصبراً على مكروه مر العواقب سأبكي على الوصل الذي كان بيننا ... وأندب أيام السرور الذواهب وأعتقل الأيام بالصبر والعزا ... عليك وإن جانبت غير مجانب قال مسرور الخادم: أمرني هارون أمير المؤمنين لما احتضر أن آتيه بأكفانه، فأتيته بها، ينتقيها على عينه، ثم أمرني، فحفرت قبره، ثم أمر فحمل إليه، فجعل يتأمله ويقول: " ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانية " ويبكي، ثم تمثل ببيت شعر. قال أحمد بن محمد الأزدي: جعل هارون أمير المؤمنين يقول وهو يموت: واسوءتاه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. استخلف الرشيد هارون سنة سبعين ومئة، وتوفي سنة ثلاث وتسعين ومئة بطوس، ودفن بقرية يقال لها سناباذ. وأتت الخلافة ابنه محمد الأمين وهو ببغداد، وتوفي الرشيد وهو ابن ست وأربعين سنة. قال بعضهم: قرأت على خيام هارون أمير المؤمنين بعد منصرفهم من طوس، وقد مات هارون: السريع منازل العسكر معموره ... والمزل الأعظم مهجور خليفة الله بدر البلى ... تسفي على أجداثه المور أقبلت العير تباهي به ... وانصرف تندبه العير