فهرس الكتاب
الصفحة 2 من 3

وأي مصلح يتكلم عن الإصلاح فإنما يتحدث عن هذه القيم الإنسانية.

ومهما بلغ هذا المصلح أو ذاك من العظمة فإنه إن استطاع تثبيت بعض القيم الإنسانية فإنه سيغفل عن جوانب أخرى تعجز نفسه عن إدراكها، بل حتى في الجوانب الإنسانية التي يريد تثبيتها، ويسخّر حياته من أجلها قد لا يعطيها حقها اللائق بها، ولا يزنها بميزان عدل، وإنما قد يتطرف بها ذات اليمين أو ذات الشمال.

وأما المصلح العظيم صلى الله عليه وسلم فهو أجل وأعظم من أن يبخس الإنسانية جانباً من جوانبها، وأعظم من ذلك فإنه قد أعطى كل جانب إنساني قدره من غير وكس ولا شطط.

ولكن هذا القسطاس المستقيم للقيم الإنسانية لن يرضي الظالمين؛ لأنه سيحدّ من جشعهم وشهواتهم؛ فتنطلق ألسنتهم وأيديهم لتعلن تمردها على مبدأ العدالة، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33) .

ولو كان هذا التمرد الأخلاقي على عظيم من عظماء البشر لأمكن تحمّله؛ لأن أي عظيم

لا يستطيع أن يدّعي المثالية، بل لا بد أن يعترف بالتقصير في جانب من جوانبه الإنسانية، ولكنه يعتذر عن هذا بما عنده من حسنات تستر هذا النقص الذي هو فيه.

وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم فهو كامل في مثاليته؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، قد أدّبه ربه فأحسن تأديبه، فاستحق الثناء من رب العالمين: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4) .

والعجب أن يكون هذا التمرد على الإنسانية باسم الإنسانية؛ تبديلاً للحقائق، وتشكيكاً في المسلمات، ونتيجة لهذا التمرد تتحول القيم الإنسانية إلى نزغات بهيميّة تقوم على مبدأ الظلم والبغي والطغيان.

إن الحديث عن الجوانب الإنسانية كلها قد لا يتيسر، ولكن المتيسر هو أن نعرض بعض جوانبها على ضوء الشريعة المحمدية، حتى تستضيء البشرية بهذه الإشراقة الإنسانية.

ولعلنا نستغني عن كثير من المقدمات المنطقية حينما نعلم أن الذنب الذي جناه محمد صلى الله عليه وسلم -في نظر أعدائه- هو اعترافه بالمبادئ الإنسانية.

فاستخدام القوة -مثلاً- أمام القوى المقاتلة ليس مبدأ محمدياً ابتداء، وإنما هو مبدأ إنساني، وحيث إن الإنسانية ممثلة بمحمد صلى الله عليه وسلم أصبح استخدام القوة مبدأ محمدياً.

والإسلام -الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم - لم يقابل بقواته أمماً تقابله بالورود والرياحين، وإنما يقابل جيوشاً مدججة بالسلاح، فما معنى امتلاك تلك الأمم للسلاح؟!

بل إن الإسلام منع من استخدام القوة أمام من لا يملك القوة، كالأطفال، والنساء، والرهبان، ونحوهم، وهذا لأن الأصل في الإسلام هو السلام، وأما استخدام القوة فعارض ينتهي بانتهاء سببه.

ثم إن استخدام القوة في الإسلام لا يكون إلا أمام الجيوش المحاربة، وأما الأفراد فليس من دين الإسلام مقابلتهم بالسلاح، وإنما يُقابَلون بالهدى والصلاح.

ولعلك تعجب حينما ترى أن الإسلام قد وهب للأفراد حرية الاختيار -على عكس معتقدات الأمم الأخرى- ومع ذلك ترى الشعوب على اختلافها تتسابق إلى الدخول في دين الله أفواجاً، على عكس معتقدات الأمم الأخرى التي عجزت عن إدخال شعوبها في معتقداتها بالحديد والنار.

وأعظم من هذا حينما تجد الشعوب المختلفة تتسابق في تقديم أبنائها الأعلام لخدمة الإسلام، وهذا لإيمانها بأنها تعيش في ظل الإسلام على قاعدة: (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى) ، وتردّد صباح مساء قول ربها سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) .

ولغتها:

أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواهُ **إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ

وإذا كانت هذه سياسة الإسلام أمام القوى الخارجية فإن الشريعة الإسلامية لم تهمل شؤونها الداخلية، ولأن المظاهر الإجرامية جزء من المجتمعات الإنسانية فقد وقف لها الإسلام بالمرصاد؛ ليدرأ شرها عن البلاد والعباد، فأعطى كل جريمة ما يناسبها من العقوبات التي ربما قد تصل إلى القتل، وهذه العقوبات تقرّ بها جميع الأمم، ولكنها تختلف في تحديد أنواع الجرائم التي تستحق تلك العقوبات.

وإذا كنا نريد برهاناً على صحة العقوبات الإسلامية وملاءمتها للحياة الإنسانية، فلسنا بحاجة إلى مقدمات منطقية، ولا نظريات فلسفية، وإنما يكفينا أن نلتفت إلى مجتمعات العالم أجمع؛ لنسألها:

أي المجتمعات نجحت في الحد من انتشار الجريمة؟!

ولنترك الجواب للأرقام.

ومن إنسانية الإسلام مراعاته لاختلاف القدرات العقلية لبني الإنسان، فيهب للعقول مساحة واسعة لتلعب دورها في بناء الحضارة الإسلامية، بل حتى في المسائل الشرعية يسمح بوجهات نظر مختلفة؛ اعترافاً

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام