فهرس الكتاب
الصفحة 451 من 536

وَتَكُونَ قُوَّةُ الْحُبِّ وَالْإِنَابَةِ، وَالتَّوَكُّلِ وَالْخَشْيَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ جَمِيعُهَا مُتَوَجِّهَةً إِلَيْهِ، وَمُتَعَلِّقَةً بِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْقَلْبُ عَاكِفًا عَلَى مَحَبَّتِهِ وَتَأْلِيهِهِ، بَلْ عَلَى إِفْرَادِهِ بِذَلِكَ، وَاللِّسَانُ مَحْبُوسًا عَلَى ذِكْرِهِ، وَالْجَوَارِحُ وَقْفًا عَلَى طَاعَتِهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مَقْدُورٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنَّ النُّفُوسَ تَشِحُّ بِهِ، وَهِيَ فِي الشُّحِّ عَلَى مَرَاتِبَ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى, وَأَكْثَرُ الْمُطِيعِينَ تَشِحُّ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنْ أَتَى بِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ, فَأَيْنَ الَّذِي لَا تَقَعُ مِنْهُ إِرَادَةٌ تُزَاحِمُ مُرَادَ اللَّهِ وَمَا يحبه منه؟ ومن [ذا] الَّذِي لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ خِلَافُ مَا خُلِقَ لَهُ، وَلَوْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ؟ فَلَوْ وَضَعَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ عَدْلَهُ عَلَى أَهْلِ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ بِعَدْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لَهُمْ, وَغَايَةُ مَا يُقَدَّرُ، تَوْبَةُ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ وَاعْتِرَافُهُ، وَقَبُولُ التَّوْبَةِ مَحْضُ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَإِلَّا فَلَوْ عَذَّبَ عَبْدَهُ عَلَى جِنَايَتِهِ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ تَابَ مِنْهَا, لَكِنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ -بِمُقْتَضَى فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ- أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ مَنْ تَابَ، وَقَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، فَلَا يَسَعُ الْخَلَائِقَ إِلَّا رَحْمَتُهُ وَعَفْوُهُ، وَلَا يَبْلُغُ عَمَلُ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْجُوَ بِهِ مِنَ النَّارِ، أَوْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، كَمَا قَالَ أَطْوَعُ النَّاسِ لِرَبِّهِ، وَأَفْضَلُهُمْ عَمَلًا، وَأَشَدُّهُمْ تَعْظِيمًا لِرَبِّهِ وَإِجْلَالًا:"لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ"، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:"وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ"1, وَسَأَلَهُ الصِّدِّيقُ دُعَاءً يَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِهِ، فَقَالَ: قُلْ:"اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عندك وارحمني، إنك الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"2. فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ الصِّدِّيقِ، الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ, فَمَا الظَّنُّ بِسِوَاهُ؟ بَلْ إِنَّمَا صَارَ صِدِّيقًا بِتَوْفِيَتِهِ هَذَا الْمَقَامَ حَقَّهُ، الَّذِي يَتَضَمَّنُ مَعْرِفَةَ رَبِّهِ، وَحَقَّهُ وَعَظَمَتَهُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَمَعْرِفَةَ تَقْصِيرِهِ. فَسُحْقًا وَبُعْدًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَسْتَغْنِي عَنْ مَغْفِرَةِ رَبِّهِ وَلَا يَكُونُ بِهِ حَاجَةٌ إِلَيْهَا! وَلَيْسَ وَرَاءَ هَذَا الْجَهْلِ بِاللَّهِ وَحَقِّهِ غَايَةٌ!! فَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ فَهْمُكَ لِهَذَا، فَانْزِلْ إِلَى وَطْأَةِ النعيم، وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُقُوقِ، وَوَازِنْ مِنْ3 شُكْرِهَا وَكُفْرِهَا، فَحِينَئِذٍ تَعْلَمُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لهم.

1 متفق عليه من حديث أبي هريرة، وتقدم بنحوه.

2 متفق عليه من حديث أبي بكر الصديق"انظر مسند أبي بكر الصديق طبع المكتب الإسلامي ص122".

3 في الأصل: بين.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام