فهرس الكتاب
الصفحة 430 من 536

وَلَيْسَ فِي حِكْمَةِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَرَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا يُعَذِّبُهُمْ أَبَدَ الْآبَادِ عَذَابًا سَرْمَدًا لَا نِهَايَةَ لَهُ. وَأَمَّا أَنَّهُ يَخْلُقُ خَلْقًا يُنْعِمُ عَلَيْهِمْ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ نَعِيمًا سَرْمَدًا، فَمِنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ. وَالْإِحْسَانُ مُرَادٌ لِذَاتِهِ، وَالِانْتِقَامُ مُرَادٌ بِالْعَرَضِ. قَالُوا: وَمَا وَرَدَ مِنَ الْخُلُودِ فِيهَا، وَالتَّأْبِيدِ، وَعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَأَنَّ عَذَابَهَا مُقِيمٌ، وَأَنَّهُ غَرَامٌ, كُلُّهُ حَقٌّ مُسَلَّمٌ، لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْخُلُودَ فِي دَارِ الْعَذَابِ مَا دَامَتْ بَاقِيَةً، وَإِنَّمَا يُخْرَجُ مِنْهَا فِي حَالِ بَقَائِهَا أَهْلُ التَّوْحِيدِ. فَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ الْحَبْسِ وَهُوَ حَبْسٌ عَلَى حَالِهِ، وَبَيْنَ مَنْ يَبْطُلُ حَبْسُهُ بِخَرَابِ الْحَبْسِ وَانْتِقَاضِهِ.

وَمِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِبَقَائِهَا وَعَدَمِ فَنَائِهَا: قَوْلُهُ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [الْمَائِدَةِ: 37] . {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزُّخْرُفِ: 75] . {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ: 30] . {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الْبَيِّنَةِ: 8] . {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِين} [الْحِجْرِ: 48] 1. {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار} [الْبَقَرَةِ: 167] . {لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الْأَعْرَافِ: 40] . {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فَاطِرٍ: 36] . {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} ، [الْفَرْقَانِ: 65] أَيْ مُقِيمًا لَازِمًا. وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ الْمُسْتَفِيضَةُ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: وَأَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ2 صَرِيحَةٌ فِي خُرُوجِ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ، وَأَنَّ هَذَا حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِهِمْ، فَلَوْ خَرَجَ الْكُفَّارُ مِنْهَا لَكَانُوا بِمَنْزِلَتِهِمْ، وَلَمْ يَخْتَصَّ الْخُرُوجُ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ. وَبَقَاءُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَيْسَ لِذَاتِهِمَا، بَلْ بِإِبْقَاءِ اللَّهِ لَهُمَا3.

وَقَوْلُهُ: وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلًا, قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ

1 هذه الآية في أهل الجنة كما تقدم"ص426"فلعله أراد آية المائدة 37 {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} وقد وقع هذا الوهم لابن القيم وغيره فانظر تعليقي على"رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار""ص".

2 آخر الجزء الأول من"مختصر الموصلي للصواعق المرسلة".

3 قلت: وهذه الأدلة قاطعة في بقاء النار وأهلها فيها من الكفار، بخلاف أدلة القول الذي قبله، فليس فيها شيء صريح، كما بسطه الإمام الصنعاني في"رفع الأستار"، فكن رجلا يعرف الحق بدليله وليس بالرجال، فكل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام