فهرس الكتاب
الصفحة 259 من 536

فَعَلَهُ وَإِلَّا عَطَّلَهُ، فَإِنَّ هَذَا يُنَافِي الِانْقِيَادَ، وَيَقْدَحُ فِي الِامْتِثَالِ, قَالَ الْقُرْطُبِيُّ نَاقِلًا عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: فَمَنْ سَأَلَ مُسْتَفْهِمًا رَاغِبًا فِي الْعِلْمِ وَنَفْيِ الْجَهْلِ عَنْ نَفْسِهِ، بَاحِثًا عَنْ مَعْنًى يَجِبُ الْوُقُوفُ فِي الدِّيَانَةِ عَلَيْهِ. فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَشِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ. وَمَنْ سَأَلَ مُتَعَنِّتًا غَيْرَ مُتَفَقِّهٍ وَلَا مُتَعَلِّمٍ، فَهُوَ الَّذِي لَا يَحِلُّ قَلِيلُ سُؤَالِهِ وَلَا كَثِيرُهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ1: الَّذِي يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ هُوَ بَسْطُ الْأَدِلَّةِ، وَإِيضَاحُ سُبُلِ النَّظْرَةِ، وَتَحْصِيلُ مُقَدِّمَاتِ الِاجْتِهَادِ، وَإِعْدَادُ الْآلَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى الِاسْتِمْدَادِ. قَالَ: فَإِذَا عَرَضَتْ نَازِلَةٌ، أُتِيَتْ مِنْ بَابِهَا، وَنُشِدَتْ مِنْ مَظَانِّهَا، وَاللَّهُ يَفْتَحُ وَجْهَ الصَّوَابِ فِيهَا. انْتَهَى. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ"2. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ, وَلَا شَكَّ فِي تَكْفِيرِ مَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَلَكِنْ مَنْ تَأَوَّلَ حُكْمَ الْكِتَابِ لِشُبْهَةٍ عَرَضَتْ لَهُ، بُيِّنَ لَهُ الصَّوَابُ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، لِكَمَالِ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، لَا لِمُجَرَّدِ قَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ، كَمَا يَقُولُ جَهْمٌ وَأَتْبَاعُهُ. وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ زِيَادَةُ بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله.

قَوْلُهُ:"فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ دَرَجَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ عِلْمَانِ: عِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَوْجُودٌ، وَعِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَفْقُودٌ، فَإِنْكَارُ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ كُفْرٌ، وَادِّعَاءُ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ كُفْرٌ، وَلَا يَثْبُتُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِقَبُولِ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ، وَتَرْكِ طَلَبِ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ".

ش: الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَهَذَا. إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ, وَقَوْلُهُ: وَهِيَ دَرَجَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ, أَيْ عِلْمِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، نَفْيًا وَإِثْبَاتًا, وَيَعْنِي بِالْعِلْمِ الْمَفْقُودِ: عِلْمَ الْقَدَرِ الَّذِي طَوَاهُ اللَّهُ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ. وَيَعْنِي بِالْعِلْمِ الْمَوْجُودِ: عِلْمَ الشَّرِيعَةِ، أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا، فَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، ومن ادعى

1 هو الإمام محمد بن عبد الله المعافري الإشبيلي من حفاظ الحديث المتوفى 543هـ. وهو غير محمد بن علي الحاتمي الصوفي صاحب"وحدة الوجود"المتوفى 638هـ.

2 صحيح روى عن جمع من الصحابة، في"الروض النضير""293، 321".

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام