الْأَسْمَاءَ وَالْأَفْعَالَ كَمَالٌ، لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مُتَعَلَّقِهَا، وَلَوْ كَانَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ عَلَى طَبِيعَةِ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ, وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَائِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِحِلْمِهِ وَعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَسَتْرِهِ وَتَجَاوُزِهِ عَنْ حَقِّهِ وَعِتْقِهِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِهِ، فَلَوْلَا خَلْقُ مَا يَكْرَهُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى ظُهُورِ آثَارِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَتَعَطَّلَتْ هَذِهِ الْحِكَمُ وَالْفَوَائِدُ, وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ:"لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ"1. وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَاءِ الْحِكْمَةِ وَالْخِبْرَةِ، فَإِنَّهُ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، وَيُنْزِلُهَا مَنَازِلَهَا اللَّائِقَةَ بِهَا، فَلَا يَضَعُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلَا يُنْزِلُهُ غَيْرَ مَنْزِلَتِهِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا كَمَالُ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَخِبْرَتِهِ, فَهُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ، وَأَعْلَمُ بِمَنْ يَصْلُحُ لِقَبُولِهَا وَيَشْكُرُهُ عَلَى انْتِهَائِهَا إِلَيْهِ، وَأَعْلَمُ بِمَنْ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ, فَلَوْ قُدِّرَ عَدَمُ الْأَسْبَابِ الْمَكْرُوهَةِ، لَتَعَطَّلَتْ حِكَمٌ كَثِيرَةٌ، وَلَفَاتَتْ مَصَالِحُ عَدِيدَةٌ، وَلَوْ عُطِّلَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ لِمَا فِيهَا مِنَ الشَّرِّ، لَتَعَطَّلَ الْخَيْرُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الشَّرِّ الَّذِي فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا كَالشَّمْسِ وَالْمَطَرِ وَالرِّيَاحِ2، الَّتِي فِيهَا مِنَ الْمَصَالِحِ مَا هُوَ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يَحْصُلُ بِهَا مِنَ الشَّرِّ, وَمِنْهَا: حُصُولُ الْعُبُودِيَّةِ الْمُتَنَوِّعَةِ الَّتِي لَوْلَا خَلْقُ إِبْلِيسَ لَمَا حَصَلَتْ، فَإِنَّ عُبُودِيَّةَ الْجِهَادِ مِنْ أَحَبِّ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَلَوْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالات لِلَّهِ سُبْحَانَهُ [وَتَعَالَى] وَالْمُعَادَاةِ فِيهِ، وَعُبُودِيَّةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعُبُودِيَّةُ الصَّبْرِ وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى وَإِيثَارِ مَحَابِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَعُبُودِيَّةُ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَعُبُودِيَّةُ الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ أَنْ يُجِيرَهُ مِنْ عَدُّوِهِ وَيَعْصِمَهُ مِنْ كَيْدِهِ وَأَذَاهُ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الَّتِي تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَنْ إِدْرَاكِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ كَانَ يُمْكِنُ وُجُودُ تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟
1 أخرج مسلم"8/ 94"عن أبي هريرة، وأبي أيوب نحوه، وهما مخرجان في"الصحيحة""968 و969", وله فيه شواهد"967 و970".
2 قال عفيفي: انظر هذا الاعتراض وتفصيل جوابه في ص193/ 198 من"مدارج السالكين"و282/ 283 من كتاب"الداء والدواء"والمسمى"الجواب الكافي"للإمام ابن القيم، فإنه وفي هذا المقام حقه.