فهرس الكتاب
الصفحة 178 من 536

فَهُوَ مَقْرُوءٌ لَهُ مَتْلُوٌّ، فَإِنْ كَتَبَهُ فَهُوَ مَكْتُوبٌ لَهُ مَرْسُومٌ, وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ, وَالْمَجَازُ يَصِحُّ نَفْيُهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ، وَلَا مَا قَرَأَ الْقَارِئُ كَلَامَ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التَّوْبَةِ: 6] . وَهُوَ لَا يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يَسْمَعُهُ مِنْ مُبَلِّغِهِ عَنِ اللَّهِ, وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَسْمُوعَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ وَلَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التَّوْبَةِ: 6] ، وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى يَسْمَعَ مَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ, وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ, وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَكْتُوبَ فِي الْمَصَاحِفِ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ، أَوْ حِكَايَةُ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَيْسَ فِيهَا كَلَامُ اللَّهِ, فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَسَلَفَ الْأُمَّةِ، وَكَفَى بِذَلِكَ ضَلَالًا.

وَكَلَامُ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: أَنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا يُتَصَوَّرُ سَمَاعُهُ مِنْهُ، وَأَنَّ الْمَسْمُوعَ الْمُنَزَّلَ الْمَقْرُوءَ وَالْمَكْتُوبَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ, فَإِنَّ الطَّحَاوِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَا. وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ، وَيَقُولُونَ: مِنْهُ بَدَا، وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَإِنَّمَا قَالُوا: مِنْهُ بَدَا. لِأَنَّ الْجَهْمِيَّةَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ خَلَقَ الْكَلَامَ فِي مَحَلٍّ، فَبَدَأَ الْكَلَامُ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ. فَقَالَ السَّلَفُ:"مِنْهُ بَدَا"أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ، فَمِنْهُ بَدَا، لَا مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزُّمَرِ: 1] . {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السَّجْدَةِ: 13] . {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النَّحْلِ: 102] . وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: وَإِلَيْهِ يَعُودُ. يُرْفَعُ مِنَ الصُّدُورِ وَالْمَصَاحِفِ، فَلَا يَبْقَى فِي الصُّدُورِ مِنْهُ آيَةٌ وَلَا فِي الْمَصَاحِفِ, كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ آثَارٍ.

وَقَوْلُهُ بِلَا كَيْفِيَّةٍ: أَيْ: لَا تُعْرَفُ كَيْفِيَّةُ تَكَلُّمِهِ بِهِ قَوْلًا لَيْسَ بِالْمَجَازِ، وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا، أَيْ: أَنْزَلَهُ إليه على لسان الملك، فسمعه الملك جبرائيل مِنَ اللَّهِ، وَسَمِعَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من الملك، وقرأ عَلَى النَّاسِ. قَالَ تَعَالَى: {وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 106] . وَقَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشُّعَرَاءِ: 193 - 195] . وَفِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ صِفَةِ الْعُلُوِّ لِلَّهِ تعالى.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام