عنوان الفتوى : هل يراعي ذوق الناس وعرفهم فيسبل المسلم ثوبه ؟ وهل في البنطال إسبال ؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

ما حكم لبس السروال تحت الكعب في مجتمعاتنا الحاضرة من غير مخيلة ؟ إذ أن رفعه فوق الكعب يفسد منظر الشخص ، ويلفت انتباه الغير ، أرجو ألا تروا في سؤالي مجادلة أو ازدراء ، إنما هو استفسار جاد ، وهذا الأمر يهمني كثيراً ، خصوصا في مجال العمل .

مدة قراءة الإجابة : 12 دقائق

الحمد لله
أولاً:
اعلم أخي السائل أن أحكام الشريعة المطهرة لم تأتِ لتجعل المسلم ذليلاً أو أضحوكة بين الناس ، بل جاءت بما فيه الخير للناس جميعاً في دينهم ودنياهم ، وتأمَّل في أحوال العالم تجد صدق هذا القول ، فقد فشت مخالفات الأمم للإسلام في حياتهم الدنيوية كثيراً ، وانظر – على سبيل المثال – آثار الاختلاط بين النساء والرجال على أحوال الأمم ، وانظر آثار إباحة الخمور ، وانظر آثار التبرج والسفور ، وانظر آثار الحرية الزائفة على تلك الأمم ، إنهم أكثر الأمم إصابة بالقلق ، والاكتئاب ، إنهم أكثر الأمم انتحاراً ، إنهم أكثر الأمم ضرباً للزوجات وقتلاً لهنَّ ، والأمثلة كثيرة جدّاً ، وما نقوله موثق من إحصائيات أنفسهم ، وليس هذا مجال تفصيل ذلك ، وإنما هي إيماءة لما نريد إيصاله لك ولغيرك من القراء الذين قد يوسوس لهم الشيطان بقبح القيام ببعض الشعائر الثابتة في الإسلام ، ولا نراك – إن شاء الله – من أولئك ، ولكن لا يمنع هذا من التنبيه عليه ، والإشارة إليه .
ثانياً:
واعلم أخي الفاضل أنه لا ينبغي للمسلم مراعاة الناس وأعرافهم إذا تعلَّق الأمر بواجب أمره الله تعالى به ، أو بمحرَّم نهاه الله تعالى عن فعله .
نعم ، يمكن للمسلم مراعاة أحوال الناس وأعرافهم في باب المستحبات ، والمباحات ، والمكروهات ، أما باب الواجبات والمحرمات : فلا يجوز له البتة التنازل عنهما من أجل الناس .
ويستدل بعض الناس خطأ بحديث عائشة في ترك النبي صلى الله عليه وسلم لهدم الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم عليه السلام ، فيجعلونه دليلاً على التنازل عن الواجبات ، وهو خطأ ظاهر ، ولو كان هذا واجباً عليه صلى الله عليه وسلم ما تركه من أجل تأليف قلوب الناس ، بل كان جائزاً ، وإليك الحديث كاملاً ، وكلام أهل العلم حوله .
عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال لهَا : يَا عَائِشَةُ لوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِليَّةٍ لأَمَرْتُ بِالبَيْتِ فَهُدِمَ فَأَدْخَلتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلزَقْتُهُ بِالأَرْضِ وَجَعَلتُ لهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ .
رواه البخاري ( 1509 ) ومسلم ( 1333 ) .
وفي لفظ عندهما : ( فأخافُ أنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهم ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
ومعلوم أن الكعبة أفضل وقف على وجه الأرض ، ولو كان تغييرها وإبدالها بما وصفه واجباً : لم يتركه ، فعُلم أنه كان جائزاً ، وأنه كان أصلح ، لولا ما ذكره من حدثان عهد قريش بالإسلام ، وهذا فيه تبديل بنائها ببناء آخر ، فعُلم أن هذا جائز في الجملة ، وتبديل التأليف بتأليف آخر هو أحد أنواع الإبدال .
" مجموع الفتاوى " ( 31 / 244 ) .
وقال – رحمه الله - :
فترك الأفضل عنده لئلا ينفر الناس ، وكذلك لو كان رجل يرى الجهر بالبسملة فأم بقوم لا يستحبونه أو بالعكس ووافقهم : كان قد أحسن .
" مجموع الفتاوى " ( 22 / 268 ، 269 ) .
وقال – رحمه الله - :
وقد ينتقل – أي : النبي صلى الله عليه وسلم - عن الأفضل إلى المفضول ؛ لما فيه من الموافقة ، وائتلاف القلوب ، كما قال لعائشة ( لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولجعلت لها بابين ) ، فهنا تركَ ما هو الأولى ؛ لأجل الموافقة ، والتأليف الذي هو الأدنى من هذا الأولى .
" مجموع الفتاوى " ( 26 / 91 ) .
ثالثاً:
وبخصوص إسبال الثياب عموماً ، والسروال خصوصاً : ينبغي التنبيه على أمور :
1. إسبال الثياب حتى تلامس الكعبين من كبائر الذنوب ، وليس تحريم الإسبال مقيَّداً بالكِبْر ، بل هو محرَّم لذاته ، وهو نفسه من الكِبْر ، فإذا أضيف إليه كِبْر قلبي : كان الإثم أكبر .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
قال ابن العربي رحمه الله : لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه ويقول " لا أجره خيلاء " ؛ لأن النهي قد تناوله لفظا ، ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكماً أن يقول " لا أمتثله ؛ لأن تلك العلة ليست فيَّ " : فإنها دعوى غير مسلَّمة ، بل إطالته ذيله دالة على تكبره ا.هـ ملخصاً .
وحاصله : أن الإسبال يستلزم جرَّ الثوب ، وجرُّ الثوب يستلزم الخيلاء ، ولو لم يقصد اللابس الخيلاء ، ويؤيده : ما أخرجه أحمد بن منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه : ( وإياك وجر الإزار ؛ فإن جر الإزار من المَخِيلة ) .
" فتح الباري " ( 10 / 264 ) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
( وإياك والإسبال فإنه من المَخِيلة ) ، فجعل الإسبال كلَّه من المَخِيلة ؛ لأنه في الغالب لا يكون إلا كذلك ، ومَن لم يسبل للخيلاء : فعمله وسيلة لذلك ، والوسائل لها حكم الغايات .
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " ( 6 / 383 ) .
وينظر في ذلك جواب السؤال رقم ( 762 ) ففيه بيان أدلة تحريم الإسبال .
2. لا يحل لأحدٍ أن يقسِّم الدين إلى لبٍّ وقشور ، ويجعل هؤلاء المقسِّمون إسبال الإزار وحلق اللحية من القشور ! وهذا خطأ وسببه الجهل بحكم الشرع ، وهذا الفعلان من كبائر الذنوب ، فانظر لتهوين هؤلاء المقسمين من ارتكاب الكبائر بقولهم السوء ذاك .
وانظر الرد عليهم في جواب السؤال رقم (12808) .
3. الإسبال ليس فقط في الثوب ، بل في الإزار والسراويل والبناطيل والعباءات ، وكل ما يلبسه المسلم من ثياب .
4. وننبه إلى أن الذي يُلبس إلى نصف الساق هو الإزار ، أما الثوب والبنطال فلا يُلبسان كذلك ، بل يُلبسان فوق الكعبين ، ولا يحل أن يلمسا الكعبين .
وقد بيَّنا هاتين المسألتين ( 4 و 5 ) في جواب السؤال رقم : ( 10534 ) فلينظر .
5. لا يحل لبس البنطال – وهو المقصود فيما ظهر لنا من قول السائل " السروال " إذا كان ضيقاً يصف العورة .
ولينظر جواب السؤال رقم : ( 69789 ) .
وأخيراً :
7. إسبال البنطال من كبائر الذنوب ، وعليه : فلا اعتبار لذوق الناس ورأيهم في تقصيره وفقاً للسنَّة النبويَّة ، كما بينَّا في أول الجواب ، ونعجب – حقيقة – ممن ينظر لهذا التقصير على أنه مفسد لمنظر المسلم ، ولا يرى تقصير ثياب النساء إلى نصف الفخذ كذلك ، ولا يرى البناطيل الضيقة المقززة التي يلبسها بعض الشباب كذلك ، ولا يرى البناطيل الساحلة ! التي خرج بها علينا بعض الشباب كذلك ، ولا يرى قصات الشباب والشابات التي تشبهوا بها بالحيوانات كذلك – قصة الأسد ، وعُرف الديك ، والبطة ، والفأر - .
وعلى الأخ الذي يلتزم تقصير الثوب أن لا يبالغ في ذلك ، فحكم إسبال الثياب محرَّم ، وليس فيه مجال مراعاة للناس ، أما المبالغة في التقصير فهي التي فيها المجال ، وعلى الإخوة الذين يلتزمون هذا الهدي أن لا يعرِّضوا أنفسهم للسخرية ، وأن لا يفتحوا مع الناس هذه المسألة على حساب غيرها ، وأن لا يجعلوا بينهم وبين الناس حاجزاً بمثل هذه الأفعال التي وسَّعت فيها الشريعة ، ويمكنهم مراعاة أعراف بلدانهم ، ولو أطال ثيابه إلى ما قبل الكعبين بقليل من أجل منع الناس من السخرية ، ومن أجل عدم وضع حواجز بينه وبين الناس : لرُجي أن يؤجر أكثر من أجر تقصير ثيابه بأكثر مما فعل .
فإسبال البنطال إلى ما تحت الكعبين من المحرمات التي لا يراعى فيها ذوق الناس وعرفهم ، وليس للمكلف أن يخالف في هذا من أجل الناس ، أما حد التقصير : فلو راعى المكلَّف عرف بلده ، ونظرة الناس له : لكان أفضل له وأسلم .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - :
اللباس إلى نصف الساق سنَّة ، وإلى ما تحت نصف الساق سنَّة ، الممنوع : أن يكون أسفل من الكعبين ، فإن الصحابة رضوان الله عليهم وهم أجلُّ قدراً ممن بعدهم ، وأحب للخير لمن بعدهم : كانت ألبستهم تصل إلى الكعب ، أو إلى ما فوقه يسيراً ، كما قال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم : " يا رسول الله ، إن أحد شقي إزاري يسترخي عليَّ إلا أن أتعهده " ، وهذا يدل على أن إزاره ينزل عن نصف ساقه ؛ لأنه لو كان إلى نصف ساقه واسترخى عليه حتى يصل إلى الأرض لزم من ذلك انكشاف عورته من فوق ، وهذا هو المعروف بين الصحابة .
فإذا رأيت مثلاً : أن الناس يكرهون اللبس إلى نصف الساق أو أعلى ، وأنك لو لبست كما يلبس الناس في غير إسراف ولا مخيلة أدعى لقبول كلامك : الحمد لله ، اترك هذا الذي تريد أن تفعله ؛ تأليفاً للقلوب ؛ وقبولاً للكلام ، ولهذا أجد الناس الآن تلين قلوبهم للناصح إذا كان لباسه على العادة ، لكنه ليس محرَّماً ، أكثر مما تميل إلى الذين يرفعون لباسهم إلى نصف الساق أو أكثر ، والإنسان قد يدع المستحب لحصول ما هو أفضل منه ، هذا وأرى أنه إذا قال له والداه : أنزل ثوبك إلى أسفل من نصف الساق : أرى أنه يطيعهما في هذا الحال ؛ لأنه كله سنَّة ، والحمد لله ، كلٌّ عمل به الصحابة رضي الله عنهم .
" لقاءات الباب المفتوح " ( 83 / السؤال رقم 14 ) .
والله أعلم