عنوان الفتوى : التوفيق بين قوله تعالى (إذا جاء أجلهم لا يستأخرون) وبين قوله عليه الصلاة والسلم " وينسأ له في أثره"
قال الله تعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) وفي الحديث ما معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك عندما رأى رجلاً فقالوا له لم ضحكت قال الآن مد الله له في عمره. ألا يعني هذا أن الأعمار يمكن أن تزيد وتنقص حسب الأعمال كصلة الرحم، وكذلك في الحديث أن من بر والديه مد الله في عمره و
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلقد وردت أحاديث تدل على أن بعض الأعمال الصالحة سبب في زيادة العمر، ومنها ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه".
ومنها ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد والحاكم في المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بر والديه طوبى له، زاد الله عز وجل في عمره". فظاهر هذين الحديثين وما شابههما يعارض دلالة الآية التي ذكرها السائل، والحقيقة أنه لا تعارض بين الآية ومدلول الحديثين، فالآجال معلومة عند الله تعالى، مقدرة مكتوبة لا يزاد فيها ولا ينقص، والزيادة المذكورة في الحديثين إما زيادة معنوية وهي: بركة العمر، والتوفيق فيه لما ينفع المرء في دينه ودنياه.
وإما زيادة محسوسة على ما هو معلوم عند الملََك، وما هو مكتوب في اللوح المحفوظ، وأما العمر الذي هو في علم الله تعالى فلا يزاد فيه، ولا ينقص، وهو المقصود بالآية المشار إليها.
والتوجيه الأول أوجه وأليق، والتوجيهان معا هما أشهر التوجيهات، لما دلت عليه الآية والأحاديث، وقد ذكرهما الشيخان الحافظ ابن حجر، والإمام النووي عند شرحهما لحديث الصحيحين المتقدم.
فقد قال الحافظ في الفتح:
(قال ابن التين: ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [لأعراف:34]. والجمع بينهما من وجهين:
أحدهما: أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى الطاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة، وصيانته عن تضييعه في غيره ذلك.
ومثل هذا ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم، فأعطاه الله ليلة القدر. وحاصله أن صلة الرحم تكون سبباً للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية، فيبقى بعده الذكر الجميل، فكأنه لم يمت.
ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلم الذي ينتفع به من بعده، والصدقة الجارية عليه، والخلف الصالح، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب القدر إن شاء الله تعالى.
ثانيهما: أن الزيادة على حقيقتها، وذلك بالنسبة إلى علم الملََك الموكل بالعمر، وأما الأول الذي دلت عليه الآية، فبالنسبة إلى علم الله تعالى، كأن يقال للملك مثلاً: إن عمر فلأن مائة - مثلاً - إن وصل رحمه، وستون إن قطعها، وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [الرعد:39]، فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى، فلا محو فيه ألبتة، ويقال له القضاء المبرم، ويقال للأول القضاء المعلق، والوجه الأول أليق بلفظ حديث الباب، فإن الأثر ما يتبع الشيء، فإذا أخر حسن أن يحمل على الذكر الحسن بعد فقد المذكور.
وقال الطيبي: الوجه الأول أظهر، وإليه يشير كلام صاحب (الفائق) قال: ويجوز أن يكون المعنى: أن الله يبقي أثر واصل الرحم في الدنيا طويلاً، فلا يضمحل سريعاً كما يضمحل أثر قاطع الرحم، ولما أنشد أبو تمام قوله في بعض المراثي:
توفيت الآمال بعد محمدوأصبح في شغل عن السفر السفر
قال له أبو دلف: لم يمت من قيل فيه هذا الشعر، ومن هذه المادة قول الخليل عليه السلام: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين)) انتهى.
وللنووي كلام مثله، أوقريب منه.
والله أعلم.