عنوان الفتوى : يذنب ويتوب ثم يذنب ويتوب...
هل يحاسب المرء عن ذنوبه إذا ما تاب بعد العديد من التوبات الفاشلة. وهل أنه عندما يحس بالذنب وغضب الله ويخاف من الموت خشية العذاب دليل على حسن النية للتوبة. وكيف ألقى الله بدون أن تمسني النار ولا العذاب.بارك الله فيكم وساهموا في تقوية إيماني.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإذا تاب العبد توبة نصوحا ثم زين له الشيطان المعصية فزلت قدمه وقارفها ، فليسارع إلى تجديد التوبة مرة أخرى والإكثار من العمل الصالح وبذلك يغفر ذنبه إن شاء الله, كلما تاب منه فإن توبة التائب لا يبطلها رجوعه للذنب بعد التوبة منه إذا كانت قد استوفت شروطها ، ومن أهم هذه الشروط أن لا يكون وقت التوبة عازما على العود للذنب ولو بعد حين, فإن الله تعالى يتقبل توبة من تاب إليه بصدق؛ كما قال تعالى :وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ {الشورى : 25 } وقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر: 53 } وأما تذكرغضب الله تعالى وخشيته فهو مؤشر خير ومن علامات التقى . قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ { الأعراف: 201 } قال الحافظ ابن كثير : يخبر تعالى عن المتقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر وتركوا ما عنه زجر أنهم إذا مسهم أي أصابهم طائف ... ومنهم من فسره بالهم بالذنب، ومنهم من فسره بإصابة الذنب . وقوله: تذكروا : أي عقاب الله وجزيل ثوابه ووعده ووعيده فتابوا وأنابوا واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب فإذا هم مبصرون: أي قد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه . انتهى باختصار.
وكون الشخص كلما وقع في الذنب تاب منه يدل على حبه لله وخشيته منه ورغبته في التوبة ، وكراهته للذنب والمعصية لأنه يكره المداومة على فعلها. قال الله تعالى في صفات المتقين : وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ
{ آل عمران : 135 } وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن عبدا أصاب ذنبا وربما قال: أذنب ذنبا فقال: رب أذنبت وربما قال: أصبت فاغفر لي ، فقال ربه : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي ، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا أوأذنب ذنبا فقال رب : أذنبت أو أصبت آخر فاغفره ، فقال : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ، غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا وربما قال : أصبت ذنبا قال : قال: رب أصبت أو قال: أذنبت آخر فاغفره لي ، فقال : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ، غفرت لعبدي ثلاثا فليعمل ما شاء .
قال النووي : وفي الحديث أن الذنوب ولو تكررت مائة مرة بل ألفا وأكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته ، أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته . وقوله في الحديث: اعمل ما شئت، معناه : ما دمت تذنب فتتوب غفرت لك .
وليعلم أنه ليس في الحديث ترخيص في فعل الذنوب ، ولكن فيه الحث على التوبة لمن وقع في الذنب ، وأنه لا يستمر على فعله ، وقد قال بعضهم لشيخه : إني أذنبت، قال: تب ، قال: ثم أعود ، قال : تب ، قال : ثم أعود ، قال تب ، قال : إلى متى ؟ قال إلى أن تحزن الشيطان. فالتوبة من الأمور المحمودة عند الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم : كل بني آدم خطاء ، وخيرالخطائين التوابون . رواه الترمذي وابن ماجه.
وعلى التائب أن يبتعد عما يجره للرذيلة من أصدقاء السوء ومن المثيرات، وأن يكثر من الأعمال الصالحة ، قال تعالى : إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ { هود: 114 } وقال تعالى : فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ { المائدة: 39 } وينبغي للتائب أن يتخذ تدابير تعينه على الاستقامة والاستمرار على التوبة وعدم النكوص وتنكب الطريق ومن هذه التدابير :
- دعاء الله بذل وإلحاح أن يرزقه الاستقامة وأن يعينه على التمسك بدينه، وخير ما يُدعى به ما كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك . رواه الترمذي .
- اجتناب أماكن المعصية وأصدقاء السوء الذين يزينون المعاصي له ويرغبونه فيها ، وفي المقابل اتخاذ رفقة صالحة من الشباب المستقيم المتمسك بالدين ، فإن صحبتهم من أعظم أسباب الاستقامة والثبات على التوبة بعد الله تعالى ، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. وقد قال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا {الكهف : 28 } فعلى ذلك التائب أن يفتش عن هؤلاء الشباب ، فيعبد الله معهم ويتعاون معهم على فعل الخيرات وطلب العلم النافع .
- أن يستر نفسه؛ لما في الحديث : اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها، فمن ألمَّ بشيء منها فليستتر بستر الله وليتب إلى الله . أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي .
- استحضار مراقبة الله دائما ، فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو القائل جل جلاله : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ { الحديد : 4 } فاستحِ منه أن يراك على معصية . وراجع الفتوى رقم: 51247 ، والفتوى رقم :65215 لمعرفة أسباب السلامة من العذاب ، وراجع في أسباب تقوية الإيمان الفتاوى التالية أرقامها : 41594/ 31768/ 69905 .
والله أعلم .