عنوان الفتوى : تهافت شبهة معارضة الحقائق الشرعية بالعقل
أحبتي أنا مسلم ملتزم منذ شبابي وخلفيتي الدينية جيدة, وأنا الآن أقارب الأربعين ولكن تعرضت لكثير من الضغوطات الفكرية التي لا ترحمني سيما وأنا أعتمد على العقل في تحاليل الأمور كلها ولولا العقل لسقطت التكاليف، هناك كثير من الأسئلة ولكن سأكتفي بسؤالي والذي أرجو أن يأخذ منحة اهتمام لديكم لأنني وعلى ما أظن أنني سوف أراجع إنتمائي للإسلام إذا ما لم أجد أجوبة واضحة وفاعلة ولست مسرورا في ما سيؤول إليه حالي, فها أنا ذا أقدم العذر إلى الله وإلى نفسي فيما سأفعل، فهل من مسعف حريص،
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإننا ننبهك أولاً إلى أن العقل ضعيف وقدرة إدراكه محدودة، ولا تجوز معارضة الحقائق الشرعية به فإنه قاصر قد لا يدرك أبسط الأشياء وأوضحها، والعقل قد دلنا على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن ربه وأنه رسول من عنده من خلال النظر في المعجزات والآيات الدالة على نبوته، فإذا سلم العقل لتلك الحقيقة فينبغي أن يلقى إليه الزمام لأن إيمانه به رسولاً من عند الله يستلزم صدقه واستقامته، وأنه لا يعمل إلا ما أمره ربه بعمله وأذن له فيه سواء أدرك العقل حكمة ذلك أو لم يدركها لقصوره، لا لاختلال في الوحي ولا فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله أو أمر به.
وإذا أردت أن تدرك عجز العقل أحيانا وقصوره فانظر إلى حال أولئك القوم من أهل الجاهلية وهم يقولون: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ {ص:5}، فعقولهم البسيطة لم تدرك أن عبادة إله واحد، الإله القادر وإفراده بذلك أولى من كثرة الآلهة وتشاكسها، ولذلك ضرب الله لهم مثلاً فقال: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا {الزمر:29}، وقال على لسان يوسف وهو يدعو من معه في السجن: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ {يوسف:39}، إن الحقيقة هنا من الوضوح بمكان، ولكن عقولهم لم تهدهم إليها لأنها تتأثر بكثير من المؤثرات التي تحجب عنها بعض الحقائق فتعمى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ {الحج:46}.
قال الشاطبي في الاعتصام: وتحكيم العقل على الدين مطلقاً مُحْدَث وقد ثبت بهذا أوجه اتباع الهوى وهو أصل الزيغ عن الصراط المستقيم: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ. وحاصل ما عولوا عليه تحكيم العقول مجردة فشركوها مع الشرع في التحسين والتقبيح، وأهل الأهواء إذا تحكمت فيهم أهواؤهم لم يبالوا بشيء ولم يعدوا خلاف أنظارهم شيئاً ولا راجعوا عقولهم مراجعة من يتهم نفسه ويتوقف في موارد الإشكال وهو شأن المعتبرين من أهل العقول، وجميع ذلك راجع إلى معنى واحد وهو إعمال النظر العقلي مع طرح السنن، إما قصدا أو غلطاً وجهلاً، والرأي إذا عارض السنة فهو بدعة وضلالة..
فإياك وتحكيم الناقص -ألا وهو عقلك- على الكامل ألا وهو شرع الله كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولو كان صحيحاً سليماً فإنه لن يعارض ذلك، لأن العقل الصحيح لا يعارض الشرع الصريح، وإذا توهمت بعض ذلك فاتهم نفسك وعقلك القاصر، ولا تتهم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينطق عن الهوى ولا يصدر إلا عن أمر ربه.
وما ذكرت من كونك ستراجع انتماءك إلى الدين إن لم تصل إلى نتيجة ترضي عقلك وتقنعه قول خطير وجراءة على الله كبيرة، وأنت بذلك إنما تضر نفسك، فمن آمن وأطاع فقد رشد، ومن ضل وغوى فإنما يضر نفسه ولا يضر الله شيئاً، قال الله تعالى: فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا {الكهف:29}، فتب إلى الله من تلك الوقاحة فإننا والله نشقق عليك، وينبغي أن تشفق على نفسك من نفسك قبل أن تزل قدمك.
وأما سؤالك عن اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فقد بينا أقسام اجتهاده صلى الله عليه وسلم وتصرفاته وذلك في الفتوى رقم: 3217.
وبالجملة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يجتهد أحياناً فيما لم ينزل عليه فيه وحي، فإذا أصاب أُقِر، وإذا أخطأ لم يقر على خطئه فيأتيه الوحي بالصواب كما بينا.
وأما محور السؤال وبيت القصيد، وهو ما الدليل على إباحة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بتسع نسوة أو أكثر؟ فالجواب عنه: أن الله سبحانه وتعالى قال في محكم كتابه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا {الحشر:7}، فهو مشرع، وما فعله وأقره ربه عليه فهو حق لا باطل قطعاً، هذا من حيث الجملة.
وأما في ذات الزواج فقد قال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا* تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا {الأحزاب:50-51}، فهذا نص قرآني لا اجتهاد فيه يبين أنه سبحانه خص نبيه بإباحة زواجه بمن شاء من غير تحديد، وقد أفضنا في هذا الأمر وفصلناه تفصيلاً في الفتوى رقم: 1570 وذكرنا أنه من المفارقات العجيبة أن يستكثر بعض أهل الكتاب والملاحدة ومن سار في فلكهم على النبي صلى الله عليه وسلم زواجه تسع نسوة أو أكثر، ويدندنون حول ذلك ويجعلونه شبهة مانعة من النبوة في حين أنهم يؤمنون بنبوة سليمان وداود، قد كان لسليمان تسع وتسعون امرأة وختمها مائة، ومع ذلك يؤمنون بنبوتهما، ونحن كذلك نؤمن بنبوتهما، ولكن هذا من باب الاحتجاج على الخصم بما يقرُّ به ويعتقده.
إن محمدا صلى الله عليه وسلم في السنوات الأخيرة من عمره كما يقول الشيخ محمد الغزالي: تزوج عدة نساء كسيرات القلوب لظروف ألمت بهن، وعشن معه طالبات آخرة لا ترف ولا سرف، وربما أرسل إلى الحبشة يتزوج من لم يرها لأنها وهي من أسرة رياسة وملك فقدت رجلها فأسرع إلى مواساتها كما فعل مع رملة بنت أبي سفيان زعيم مكة.. فأين مكان الشهوة هنا أو هنا؟.
نسأل الله تعالى لك التوفيق والسداد، وأن لا يزيغ قلبك بعد إذ هداك إنه سميع مجيب، ونعتذر إليك عن خدمة الماسنجر فخدماتنا تنحصر في تحرير الفتوى ونشرها على الموقع وإرسالها إلى السائل على عنوانه إن طلب ذلك، وأما المحادثة على الماسنجر فليست من الخدمات المتوفرة لدينا.
والله أعلم.