عنوان الفتوى : إطلاع الله بعض خلقه على شيء من الغيب
نود أن نقدم أنفسنا إليكم، نحن مجلس الشورى في المركز الإسلامي في مدينة أيوا، الولايات المتحدة الأمريكية. وهو مركز يتبنى منهج أهل السنه والجماعه نسعى فيه لتقديم الإسلام على الوجه الصحيح مستمدين تعاليمه من القرآن الكريم والسنه المطهرة ومنهج السلف في محاوله جاهدة لجمع شمل المسلمين. ووظائف هذا المجلس عديدة إلا أن أحد وظائفه هو فض الخلافات و تقريب وجهات النظر والإصلاح بين جماعة المسجد, وهذا ما نحن بصدد الاستفتاء فيه من فضيلتكم. فقد وقع خلاف بين الأمير (الإمام) وأحد أفراد جماعة المسجد، والذي نختصره هنا بالتالي: منذ فتره أتيحت الفرصة لأحد الإخوان لإلقاء الدروس وبعض خطب الجمعه في المسجد. وفي إحدى الخطب عرّض هذا الأخ بالشيخ ابن باز رحمه الله بأنه شيخ سلطة ويفتي على هوى الحكام مما أثار حفيظة الإمام والذي يرى أن الشيخ وإن أخطأ في فتوى الاستعانة بالقوات الكافرة في تلك الحرب المشؤومة إلا أنه لا ينبغي أن يستغل هذا للتقليل والنيل من الشيخ وهو الذي أفنى عمره لخدمة الإسلام والمسلمين نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله ونسأل الله أن يعلي درجته. وبمناقشة الإمام لهذا الشخص تبين أن له بعض المآخذ على الرجل مما جعله يمنعه من الخطب وإلقاء الدروس. واستمر هذا الوضع لفترة من الزمن حتى تفاقمت المشكلة مما أدى إلى تدخلنا نحن مجلس الشورى لحل الخلاف. وباستدعاء طرفي الخلاف وحسب طلبنا أن يقدم كل طرف مآخذه على الآخر في محاولة لإيجاد حل يرضي الطرفين، تبين لنا وجود تباين كبير في المعتقدات لكلا الطرفين مما جعل حسم هذه الخلافات من الصعوبة بمكان مالم يتم البت وبشكل شرعي في بعض النقاط الأساسية التي قدمها كلا الطرفين. لذا فإننا نتقدم لفضيلتكم بالأسئلة التالية راجين منكم إجابه كل سؤال على حدة وبتفصيل مع ذكر الأدله الشرعيه ليتسنى لنا حل هذه الخلافات، هذا مع الأخذ بالاعتبار أننا حريصون كل الحرص على جمع الشمل في ظل المنهج الصحيح دون مداهنة أو تضليل. والأسئلة هي كالتالي: ما هو قولكم في من يعتقد بقدرة الصالحين على النظر في اللوح المحفوظ والاطلاع على الغيب (كما حصل للجيلاني والشاذلي وابن تيمية بزعمهم كما قال أحد الطرفين)؟ ما هو قولكم في من يؤيد مذهب الأشاعره في العقيدة والقول بأن هذا هو مذهب الأحناف والشافعية والمالكية؟ ما هو قولكم في من يقول بأحقية أي شخص في نقد العلماء؟ وهل نقد العلماء مطلق أو مقيد بمعنى هل يشترط توفر بعض الشروط في من ينتقد العلماء؟ هل طاعة الأمير والقائمين على المسجد واجبة ما لم يأمروا بمعصيه؟ وهل يجوز شق الصف ومفارقة الجماعة عند الخلاف؟ ماهي الشروط الواجب توفرها في الشخص لإتاحة الفرصة له لإلقاء الدروس والخطب في المسجد في ظل عدم توفر العالم أو حتى طالب العلم بل أكثر ما يمكن قوله في الموجودين بأنهم قليلو علم، خصوصا في وجود حديثي الإسلام وعامة المسلمين ممن يجهلون كثيرا من أمور العقيدة والفقه؟ هل يحق للإمام أن يمنع أحد أفراد جماعة المسلمين من إلقاء الدروس في المسجد إذا رأى منه ما يستدعي ذلك؟ سائلين الله عز وجل أن يعظم لكم الأجر ويجزل لكم المثوبة ،،،، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته مجلس الشورى بالمركز الإسلامي بأيوا سيتي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فنسأل الله تعالى أن يوفقكم فيما أنتم فيه من الخير والحرص على تأليف الصف وجمع الكلمة: - لا يجوز لأحد أن يعتقد أن صالحاً من الصالحين يمكنه النظر في اللوح المحفوظ، أو أنه وقع لأحدهم ذلك، فإن هذا من الغيب الذي لا يمكن إثباته لأحد إلا بالنص. ولم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن أحداً ممن سبق أو ممن سيأتي يمكنه الله من النظر في اللوح المحفوظ. وإنما يطلع الله أنبياءه على شيء من الغيب عن طريق الوحي تأيداً لهم. قال تعالى: ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً* إلا من ارتضى من رسول….) [الجن: 26-27] وليكون معجزة بين يدي دعوته لقومه. وقد يطلع الله الولي ـ وهو المستقيم على شرع الله ـ على أمر من الغيب عن طريق الإلهام والتحديث، لكن لا يقال حينئذ إن هذا الولي نظر في اللوح المحفوظ. وما ثبت عن عمر رضي الله عنه من مخاطبة سارية وقوله له: الجبل الجبل، وعمر على المنبر، وسارية في أرض العراق هو من هذا النوع، لكن لم يقل أحد ولا يصح أن يقال: إنه نظر في اللوح المحفوظ أو اطلع على ما فيه. ولا يكون هذا مطرداً، ولا بإرادة الولي، وقد يكون غيره أفضل منه ولا يظهر على يديه شيء من هذا. ولا ينبغي للمؤمن أن يخوض ولا أن يتكلف طلب معرفة الطريقة التي يقع بها الإلهام والكشف. - وأما مذهب الأشاعرة في العقيدة فهو قائم على آراء الإمام أبي الحسن الأشعري في المرحلة الثانية من حياته، وهي المرحلة التي وافق فيها ابن كلاب، وقد رجع الأشعري رحمه الله عن كثير من آرائه الاعتقادية التي تبناها في تلك المرحلة. وأثبت معتقده الموافق لأهل الحديث في الجملة في كتبه: مقالات الإسلاميين والإبانة، ورسالة إلى أهل الثغر. ومن نظر في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين من بعدهم من أهل القرون المفضلة علم أن كثيراً مما عليه الأشاعرة اليوم مخالف لذلك. ومن شاء فليقرأ ما دونه اللالكائي في: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، والأصفهاني في :الحجة، والذهبي في: العلو، وقبلهم عبد الله بن أحمد في السنة، وابن خزيمة في: التوحيد، وابن منده في: التوحيد، أيضا، والصابوني في: معتقد أهل الحديث، وغير ذلك من دواوين أهل الإسلام، وهي دواوين نقية يعتمد عليها. والأشاعرة مخالفون لما عليه السلف في جملة من القضايا الكبار، كالإيمان والقدر والكلام والعلو وكثير من الصفات التي يتأولونها أو يثبتونها مع تفويض معناها. وليس هذا مقام بسط وتفصيل، لكن من أراد التحقق من ذلك فليقرأ ما ألف في عرض مذهب الأشاعرة ونقده، ومن ذلك: موقف ابن تيمية من الأشاعرة للدكتور عبد الرحمن المحمود، ومنهج الأشاعرة للدكتور خالد عبد اللطيف نور، ومنهج الأشاعرة في العقيدة للدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي. وأما الزعم بأنه مذهب الأحناف والشافعية والمالكية فإنه زعم غير صحيح، فإن أكثر الأحناف على مذهب الماتريدية، والموافقون للأشاعرة من الشافعية والمالكية إنما هم المتأخرون منهم وفيهم جماعة من أفاضلهم ينصرون مذهب السلف وأهل الحديث، بل كثير من الأشاعرة المتقدمين ليسوا على ما تدين به الأشاعرة في العصور المتأخرة. ولو سلم أن أكثر هؤلاء يوافقون الأشاعرة في المعتقد، فإننا نقول: لا مجال للمقارنة بين هؤلاء وبين أساطين المحدثين وأئمة الإسلام في القرون الأولى. - أما نقد العلماء، والنقد بصفة عامة فيجوز لمن كان أهلاً لذلك، وهو النقد المبني على الحجة والدليل، على جهة بيان الحق، لا على جهة الوقيعة في ذات الأشخاص، مع العدل والإنصاف ومعرفة حق العلماء والفضلاء. والشيخ ابن باز رحمه الله لا يخفى على أحد علمه وفضله وجهوده في نشر العقيدة والدعوة إلى الله، وهو بشر يصيب ويخطئ، لكن خطأه مغمور في بحر حسناته، وكما قيل: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث. وكفى بالمرء نبلًا أن تعد معايبه، ولا يجوز الاعتماد على خطأ أو خطأين أو أكثر لنسف حسنات العالم الفاضل فإن هذا صنيع من لا يخاف الله، ولا يعرف قدر العلماء، وهو مسلك الجهلة والمتنطعين من المنتسبين إلى الدين. - وإمام المسجد مسؤول عنه وعمن تحته من العمال والموظفين حسب النظام الإداري المتبع، وهؤلاء يلزمهم طاعته في العمل، كما هو الحال في جميع الإدارات والمؤسسات من مدارس ومعاهد وغيرها. وكذلك طلابه والمستفيدون منه يطيعونه ويأخذون بتوجيهه تأدباً ومراعاة لفضله وحقه. وليست هذه هي الطاعة اللازمة المأمور بها في نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن أطاع أميري فقد أطاعني" متفق عليه. فإن هذا للأمير المبايع لا لأحاد الناس، ولو تولى مسؤولية مسجد أو مدرسة أو نحو ذلك. وينبغي للمسلمين أن يحرصوا على الجماعة والألفة ونبذ أسباب الفرقة قدر الإمكان، لا سيما في بلاد الغربة، حتى لا تتشتت الجهود وتضيع الثمرة. - ولا ينبغي أن يعهد بالتدريس إلا لمن يحسن ذلك من طلبة العلم ممن عرف سلامة معتقده وحسن سيرته وأخلاقه، وإن لم يوجد طالب العلم المتمكن فيختار الأمثل فالأمثل. مع التعاهد بالنصح والتوجيه، والوصية بالإخلاص والتقوى. - الإمام مسؤول عن المسجد كما سبق، ولذا يحق له اختيار من يقوم بالتدريس والوعظ، ومنع من لا يصلح لذلك، إلا إذا كان التعاقد معه متضمنا جعل صلاحية الاختيار في هذه الأمور لغيره أو له ولغيره، فيجري العمل على ما اتفق عليه أولاً. وإلا فهو أحق بذلك. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى. والله أعلم.