عنوان الفتوى : هل ثواب الفرض أعظم من ثواب النفل دائمًا؟
روى البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (إن الله قال: ... وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه). يؤخذ من الحديث: أن الأعمال الواجبة أفضل عند من المستحبة وروى الشيخان البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن اتبعها حتى توضع في القبر فقيراطان) قال: قلت: يا أبا هريرة، وما القيراط ؟ قال: "مثل أحد" يؤخذ من الحديث: أن الصلاة على الميت ودفنه -وهما مستحبان- أجر الواحد منهما قيراط، هل يصح أن نقول بناء على هذين الحديثين أن أي عمل مفروض فأجره أكبر من قيراط ؟ فمثلا: الصلاة الواحدة المفروضة هي عن عشر صلوات مفروضة، فهل نقول أن أجر عُشر الصلاة أكبر من قيراطين؟ وهل نقول أن أجر رد السلام أكبر من قيراط؟
الحمد لله.
أولا:
الفرائض أعظم من النوافل، كما هو معلوم؛ وهي أحب إلى الله تعالى، وأكثر أجرا.
وقد روى البخاري (6502) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ.
قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (7/92): "ومعلوم أن أجر الفرض أكثر من أجر النفل؛ لقوله عز وجل: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضت عليه) رواه البخاري من رواية أبي هريرة.
وقد قال إمام الحرمين من أصحابنا عن بعض العلماء: إن ثواب الفرض يزيد على ثواب النافلة بسبعين درجة، واستأنسوا فيه بحديث" انتهى.
وقال ابن رجب، رحمه الله: " وأداء الفرائض أفضلُ الأعمال، كما قال عمرُ بنُ الخطاب - رضي الله عنه -: أفضلُ الأعمال أداءُ ما افترضَ اللهُ، والوَرَعُ عمّا حرَّم الله، وصِدقُ النيّة فيما عند الله - عز وجل -.
وقال عمرُ بنُ عبد العزيز في خطبته: أفضلُ العبادة أداءُ الفرائض، واجتنابُ المحارم.
وذلك لأنَّ الله - عز وجل - إنَّما افترض على عباده هذه الفرائض لِيُقربهم منه، ويُوجِبَ لهم رضوانه ورحمته" انتهى من "جامع العلوم والحكم" (3/1072).
وقال الحافظ رحمه الله: " وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ: أَنَّ أَدَاء الْفَرَائِض أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّه، قَالَ الطُّوفِيُّ: الْأَمْرُ بِالْفَرَائِضِ جَازِمٌ، وَيَقَعُ بِتَرْكِهَا الْمُعَاقَبَةُ، بِخِلَافِ النَّفْلِ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ اِشْتَرَكَ مَعَ الْفَرَائِضِ فِي تَحْصِيلِ الثَّوَابِ؛ فَكَانَتْ الْفَرَائِضُ أَكْمَلَ، فَلِهَذَا كَانَتْ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَشَدَّ تَقْرِيبًا.
وَأَيْضًا: فَالْفَرْضُ كَالْأَصْلِ وَالْأُسِّ، وَالنَّفْلُ كَالْفَرْعِ وَالْبِنَاءِ , وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْفَرَائِضِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ اِمْتِثَالُ الْأَمْرِ، وَاحْتِرَامُ الْآمِرِ وَتَعْظِيمُهُ بِالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ، وَإِظْهَارُ عَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ؛ فَكَانَ التَّقَرُّبُ بِذَلِكَ أَعْظَمَ الْعَمَلِ ...
وَقَالَ اِبْن هُبَيْرَة: يُؤْخَذ مِنْ قَوْله " مَا تَقْرَب إِلَخْ ": أَنَّ النَّافِلَة لَا تُقَدَّمُ عَلَى الْفَرِيضَة؛ لِأَنَّ النَّافِلَة إِنَّمَا سُمِّيَتْ نَافِلَةً لِأَنَّهَا تَأْتِي زَائِدَةً عَلَى الْفَرِيضَةِ؛ فَمَا لَمْ تُؤَدَّ الْفَرِيضَةُ، لَا تَحْصُلُ النَّافِلَةُ.
وَمَنْ أَدَّى الْفَرْضَ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ النَّفْل، وَأَدَامَ ذَلِكَ: تَحَقَّقَتْ مِنْهُ إِرَادَةُ التَّقَرُّبِ " انتهى من "فتح الباري" (11/343).
وفي "الموسوعة الفقهية" (41/103): "لا خلاف بين الفقهاء في أن الفرض أفضل من النفل؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه: وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه.
وقال إمام الحرمين: قال الأئمة: خص الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بإيجاب أشياء لتعظيم ثوابه، فإن ثواب الفرائض يزيد على ثواب المندوبات بسبعين درجة.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله، وصدق النية فيما عند الله عز وجل، وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: أفضل العبادة أداء الفرائض واجتناب المحارم.
واستثنى الفقهاء من أصل أفضلية الفرض على النفل أمورا، وذكروا صورا للنوافل التي فضلها الشرع على الواجبات، منها:
أ - إبراء المعسر، فإنه أفضل من إنظاره، وإنظاره واجب، وإبراؤه مستحب.
هذه الصورة ذكرها ابن نجيم وابن السبكي والقرافي.
ب - ابتداء السلام، فإنه سنة، والرد واجب، والابتداء أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم: (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام).
ج - الوضوء قبل الوقت مندوب، وهو أفضل من الوضوء بعد الوقت وهو الفرض.
وذكر هاتين الصورتين الحنفية والشافعية.
وذكر الشافعية أن الأذان سنة، وهو على ما رجحه النووي أفضل من الإمامة، وهي فرض كفاية أو عين" انتهى.
ثانيا:
صلاة الجنازة، وهي فرض كفاية، وليست مستحبة فقط كما في السؤال، وفيها الثواب العظيم الذي ذكرت.
وباب الثواب توقيفي، لا يُعلم إلا بالنص، ولا يقاس عليه، فلا يقال: ما دام الفرض أعظم من النفل، وثواب النفل قيراط مثلا؛ فثواب الفرض كذا قيراطاً.
قال الإمام ابن عبد البر، رحمه الله - في شرح حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل المجاهد في سبيل الله، كمثل الصائم القائم الدائم، الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام، حتى يرجع ) - :
" هذا من أفضل حديث وأجله في فضل الجهاد؛ لأنه مثله بالصلاة والصيام، وهما أفضل الأعمال. وجعل المجاهد بمنزلة من لا يَفْتُر عن ذلك ساعة، فأي شيء أفضل من الجهاد، يكون صاحبه راكبا، وماشيا، وراقدا، ومتلذذا بكثير من حديث رفيقه، وأكله، وشربه، وغير ذلك مما أبيح له؛ وهو في ذلك كله كالمصلي، التالي للقرآن في صلاته، الصائم مع ذلك المجتهد؟ إن هذا لغاية في الفضل، وفقنا الله برحمته.
ولهذا ومثله قلنا: إن الفضائل لا تدرك بقياس ونظر، والله المستعان". انتهى من "التمهيد" (11/551).
وقال أيضا – في شرح حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يزال أحدكم في صلاة، ما كانت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة ) - :
" هذا حديث صحيح لا مطعن لأحد فيه من جهة الإسناد، وقد روي عن أبي هريرة من وجوه.
وفي هذا الحديث دليل على أن فضل منتظر الصلاة، كفضل المصلي؛ لأنه معلوم أن قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يزال أحدكم في صلاة، ما كانت الصلاة تحبسه ) : لم يُرِدْ به أن منتظر الصلاة قائم، ولا أنه راكع وساجد، وإنما أراد أن فضل انتظار الصلاة بالقصد إلى ذلك، وبالنية فيه، كفضل الصلاة، وأن منتظرها كالمصلي في الفضل.
ولله أن يتفضل بما شاء، على من يشاء، فيما شاء من الأعمال، لا معقب لحكمه، ولا راد لفضله؛ ومن الوجه الذي عرفنا فضل الصلاة منه، عرفنا فضل انتظارها.
وقد علم الناس أن المصلي في تلاوته وقيامه وركوعه، أتعب من المنتظر للصلاة، ذاكرا كان أو ساكتا، ولكن الفضائل لا تدرك بنظر، ولا مدخل فيها لقياس، ولو أخذت قياسا، لكان من نوى السيئة، كمن نوى الحسنة، ولكن الله منعم كريم متفضل رحيم، يكتب الحسنة بالنية وإن لم تُعمَل، فإن عُملت، ضُعِّفت عشرا، إلى سبع مئة، والله يضاعف لمن يشاء، ولا يؤاخذ عباده المسلمين بما وسوست به صدورهم، ونووا من الشر، ما لم يعملوه". انتهى من "التمهيد" (11/626).
وقال ابن بطال، رحمه الله: " وَقَالَ هَمَّامٌ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، (تُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ) .
قال المؤلف: قول أبى هريرة: (تميط الأذى عن الطريق صدقة): ليس هو من رأيه؛ لأن الفضائل لا تدرك بقياس، وإنما تؤخذ توقيفًا عن النبي عليه السلام. وقد أسند مالك معناه من حديث أبى هريرة عن النبى عليه السلام أنه قال: (بينما رجل يمشى بطريق إذا وجد غصن شوك على الطريق فأخره؛ فشكر الله له فغفر له) .
فإن قيل: كيف تكون إماطة الأذى عن الطريق صدقة؟ قيل: معنى الصدقة إيصال النفع إلى المتصدق عليه" انتهى من "شرح صحيح البخاري" (6/591).
وإنما يقال: ثواب الفرض أعظم من غير شك، دون تحديد.
ولا يقال: إن ثواب كل فرض كرد السلام أكثر من قيراط، فإن القيراط إنما ورد في صلاة الجنازة، فلو قيل إن ثواب الصلاة المفروضة أكثر من قيراط، لاحتمل أن يكون له وجه، لأن جنس الصلاة واحد- مع أن الأسلم عدم الخوض في ذلك-، لكن لا يقال هذا مع اختلاف الجنس، كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وصلة الرحم، فلا يقال: إن أجر الفريضة من ذلك أعظم من قيراط، فهذا قول على الله بغير علم.
ولا ينبغي أن يقارن بين فريضة معينة ونافلة من غير جنسها، فأمر ذلك إلى الله تعالى، وإن كان يقال: جنس الفرائض أعظم من النوافل.
قال السيوطي رحمه الله: " القاعدة المستقرة في أن الفرض أفضل من النفل في الجنس الواحد، أما في الجنسين: فقد تختلف، فإن الصنائع والحرف فروض كفايات، ويبعد أن يقال: إن واحدة من رذائلها أفضل من تطوع الصلاة، وإن سُلّم أنه أفضل من جهة أن فيه خروجا من الإثم، ففي تطوع الصلاة من الفضائل ما قد يجبر ذلك، أو يزيد عليه.
وجنس الفرض أفضل من جنس النفل، وقد يكون في بعض الجنس المفضول، ما يربو على بعض أفراد الجنس الفاضل، كتفضيل بعض النساء على بعض الرجال.
وإذا تُؤمل ما جمعه الأذان من الكلمات العظيمة ومعانيها ودعوتها: ظهر تفضيله؛ وأنى يدانيه صناعة قيل: إنها فرض كفاية؟" انتهى من "الأشباه والنظائر"، ص 146.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "جنس العبادة: إذا كان فريضة، فهو أفضل من نافلتها؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أن الله تعالى يقول: "ما تقرب إليّ عبدي بشي أحب إلي مما فرضت عليه"، ولأن الله أوجبها، وهو دليل على محبته لها، وعلى أنها أنفع للعبد من النافلة" انتهى من "فتاوى ابن عثيمين" (14/331).
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |