عنوان الفتوى : من أحكام الوصية
استعرت من شخصين كتابين، فهل يلزمني أن أكتب وصية بأني إذا مت ردوا هذا الكتاب لصاحبه، وهل تجب على الفور؟ وهل يجب الإشهاد عليها، وهل تجب، ولو لم أكن مريضا؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا تجب الوصية، إلا إذا ترتب على عدمها ضياع حق واجب، كأن يكون عند المرء وديعة، أو عارية بغير شهود، فلا يعلم بها أحد غيره، فيجب عليه الإيصاء بردها لصاحبها.
قال ابن قدامة في المغني: لا تجب الوصية، إلا على من عليه دين، أو عنده وديعة، أو عليه واجب يوصي بالخروج منه، فإن الله -تعالى- فرض أداء الأمانات، وطريقه في هذا الباب الوصية، فتكون مفروضة عليه ... وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أن الوصية غير واجبة، إلا على من عليه حقوق بغير بينة، وأمانة بغير إشهاد .... اهـ.
وقال البلقيني في «التدريب في الفقه الشافعي»: لا تجب الوصية، إلا إذا تعينت طريقا لأداء ما في الذمة، من زكاة، أو حج، أو دين آدمي، أو لرد وديعة، أو عارية، أو مغصوب، ونحو ذلك. اهـ.
وإذا وجبت الوصية، وكتبها صاحبها وهو يعلم أن ورثته، أو من يقوم على إنفاذها يكتفي بكتابته دون إشهاد، فلا حرج عليه في ذلك، وإلا فالإشهاد أفضل خروجا من مخالفة جمهور الفقهاء، قال ابن قدامة في المغني: من كتب وصية، ولم يشهد فيها، حكم بها، ما لم يعلم رجوعه عنها نص أحمد على هذا ... وروي عن أحمد أنه لا يقبل الخط في الوصية، ولا يشهد على الوصية المختومة، حتى يسمعها الشهود منه، أو تقرأ عليه، فيقر بما فيها. وبهذا قال الحسن، وأبو قلابة، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.... اهـ.
وقال ابن حجر في الفتح عند حديث: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده.، قال: استدل بقوله "مكتوبة عنده" على جواز الاعتماد على الكتابة، والخط، ولو لم يقترن ذلك بالشهادة ... وأجاب الجمهور بأن الكتابة ذكرت لما فيها من ضبط المشهود به، قالوا: ومعنى "وصيته مكتوبة عنده"، أي بشرطها... وأجيب بأنهم استدلوا على اشتراط الإشهاد بأمر خارج، كقوله -تعالى-: {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية}، فإنه يدل على اعتبار الإشهاد في الوصية. وقال القرطبي: ذكر الكتابة مبالغة في زيادة التوثق، وإلا فالوصية المشهود بها متفق عليها، ولو لم تكن مكتوبة. اهـ.
وكذلك مسألة الفور، هي محل خلاف بين أهل العلم، والظاهر أن الوصية إذا وجبت، فإنها تجب على الفور، ويرخص في ذلك إلى ثلاث ليالٍ، قال الباجي في «المنتقى»: قوله: "وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين، إلا ووصيته عنده مكتوبة»" فتأول في ذلك -يعني الإمام مالكا- أن عقد الوصية واجب، أو مندوب إليه، وأنه على الفور. اهـ.
وقال ابن حجر في الفتح: كأن ذكر الليلتين، والثلاث لرفع الحرج، لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها، ففسح له هذا القدر ليتذكر ما يحتاج إليه، واختلاف الروايات فيه دال على أنه للتقريب لا التحديد، والمعنى لا يمضي عليه زمان، وإن كان قليلا، إلا ووصيته مكتوبة. وفيه إشارة إلى اغتفار الزمن اليسير، وكأن الثلاث غاية للتأخير. اهـ.
وأما مسألة المرض، فإن أهل العلم إنما يذكرونه في تعيين الحال التي تجب فيها الوصية مطلقا، لا الوصية الواجبة برد الأمانات، والودائع التي يخشى عليها الضيعة! فالوصية المطلقة خصها القرآن بحضور الموت، كما قال -تعالى-: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ {البقرة: 180}.
وحضور الموت فسره بعض أهل العلم بوجود مرضه، قال الواحدي في الوجيز: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}، أَيْ: أسبابه، ومُقدِّماته. اهـ.
وقال القاضي أبو يعلى في «التعليقة الكبيرة»: وجوب الوصية متعلق بشرط، وهو حضور الموت، وللموت أمارة يغلب معها في الظن وجوده، وهو أن يشتد مرضه، فإذا وجدت الأمارة وجبت، ولم يجز له تأخيرها، ويصير الوقت الذي يتعين وجوبها فيه معلوما. اهـ.
وخالفهم آخرون، ففسروه بأن الوصية ذاتها معلقة بوقوع الموت، قال الزجاج في معاني القرآن: معنى {حضر أحدكم الموت} ليس هو إنه كتب عليه أن يوصي إذا حضره الموت؛ لأنه إذا عاين الموت يكون في شغل عن الوصية، وغيرها. ولكن المعنى: كتب عليكم أن توصوا، وأنتم قادرون على الوصية، فيقول الرجل: إذا حضرني الموت، أي إذا أنا مت، فلفلان كذا. اهـ.
وقال الماوردي في النكت والعيون: ليس يريد به ذكر الوصية عند حلول الموت؛ لأنه في شغل عنه، ولكن تكون العطية بما تقدم من الوصية عند حضور الموت. اهـ.
والله أعلم.