عنوان الفتوى : هل معرفة ما في داخل الشخص أو التنبؤ بالمستقبل يعد من الكهانة؟
لقد رأيت كثيرًا في مسلسلات لدولة إسلامية ما، يظهرون شخصًا زاهدًا عابدًا كأنه ولي من الأولياء الصالحين، يستطيع معرفة ما في داخل الشخص، أو التنبأ بالمستقبل من قول مثلا: إن الله سوف يريحه، أو يهديه، أو يرسل له الزوجة، أو الزوج الصالح. فما حكم تمثيل ذلك العابد الزاهد الذي أنعم الله عليه بالرؤية عن المستقبل؟ وهل يعد ذلك من الكهانة، والشرك بالله؟ وهل هناك أشخاص أنعم الله عليهم بذلك؟ وهل تصديق ذلك يعد شركًا؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإنك لم تذكر لنا مثالًا معينًا لشخص زاهد من الأولياء ذكر في المسلسل، ولا شك أنه قد يوجد أولياء، وهم المؤمنون المتقون الذين وصفهم الله تعالى بقوله: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ {يونس:62-63}.
قال ابن كثير في تفسيره: يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، كما فسرهم ربهم، فكل من كان تقيًّا كان لله وليًّا. اهـ
والولاية لا تستلزم الاستطاعة لمعرفة مستقبل شخص، ولا معرفة ما بقلبه، وقد يوجد منهم أناس ملهمون صادقون، يطلعهم الله على شيء عن طريق الإلهام، أو الفراسة، أو الرؤيا الصادقة، وهؤلاء يجوز التفاؤل بخبرهم من دون جزم بصدقه؛ لأن أخبارهم غير معصومة، ولا يعد كلامهم من الكهانة، ولا يعد الاستبشار به من الشرك، ففي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم ناس مُحدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد منهم فهو عمر.
والإلهام في الاصطلاح: إيقاع شيء في القلب، يَثْلَجُ له الصدر، من غير استدلال بوحي، ولا نَظَرٍ في حجة عقلية، يخْتَصُّ الله به من يشاء من خلقه. كذا في شروح جمع الجوامع، وأضواء البيان.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان عدم عصمة خبر الملهمين: والأولياء وإن كان فيهم محدثون كما ثبت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إنه قد كان في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر. فهذا الحديث يدل على أن أول المحدثين في هذه الأمة عمر، وأبو بكر أفضل منه، إذ هو الصديق، فالمحدث وإن كان يلهم ويحدث من جهة الله تعالى، فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب والسنة، فإنه ليس بمعصوم، كما قال أبو الحسن الشاذلي: قد ضمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة، ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف والإلهام، ولهذا كان عمر بن الخطاب وقَّافًا عند كتاب الله، وكان أبو بكر الصديق يبين له أشياء تخالف ما يقع له، كما بين له يوم الحديبية، ويوم موت النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويوم قتال مانعي الزكاة، وغير ذلك، وكان عمر يشاور الصحابة، فتارة يرجع إليهم، وتارة يرجعون إليه. وكان يأخذ بعض السنة عمن هو دونه في قضايا متعددة، وكان يقول القول فيقال له: أصبت، فيقول: والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأه، فإذا كان هذا إمام المحدثين، فكل ذي قلب يحدثه قلبه عن ربه إلى يوم القيامة هو دون عمر، فليس فيهم معصوم، بل الخطأ يجوز عليهم كلهم... انتهى.
وقد اختلف أهل العلم في حكم التمثيل من حيث الأصل، فمنهم من حرَّمه ابتداء، ومنهم من جوَّزه إذا خلا من المحاذير الشرعية، كالأفكار المنحرفة، والاختلاط المحرم بين النساء والرجال، وظهور المرأة متبرجة، وغير ذلك، والمفتى به عندنا هو القول الثاني، فإذا افترضنا وجود تمثيل خال من المحاذير الشرعية، فلا حرج فيه، مع مراعاة هذا القيد الذي لا يكاد يوجد إلا نادرا.
وراجع الفتاوى: 184491، 109827، 133808.
والله أعلم.