عنوان الفتوى : هل تلزم الكفارة من حرَّف حلفه بالله لكي يغش؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

إذا تعمد الشخص أن يحرف قسمه بالله، فينطق به نطقا غير صحيح؛ لكي يغش في مسألة ما. فهل يحاسب على قسمه؟ وهل عليه كفارة إذا كان يكذب؟

مدة قراءة الإجابة : 6 دقائق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن السؤال لم يذكر فيه الصيغة التي نطق بها الحالف، والأمر الذي حلف عليه، ليمكن الحكم عليها.

وعليه؛ فإن الفتوى ستكون بكلام عام، فنقول: إن الغش والخداع -ولو بلا حلف أصلا- من الأمور المحرمة شرعا، والأدلة على تحريمها متضافرة، بل هو من كبائر الذنوب عند بعض العلماء.

قال الهيتمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر: الكبيرة الثانية بعد المائتين: المكر، والخديعة. قال تعالى: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله {فاطر: 43}... وأخرج ابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من غشنا فليس منا، والمكر والخداع في النار.... وقال تعالى عن المنافقين: يخادعون الله وهو خادعهم {النساء: 142}... وفي حديث: أهل النار خمسة، وذكر منهم: رجلا لا يصبح، ولا يمسي، إلا وهو مخادعك عن أهلك، ومالك. أخرجه مسلم. تنبيه: عد هذا كبيرة، صرح به بعضهم، وهو ظاهر من أحاديث الغش السابقة، ومن هذا الحديث، إذ كون المكر والخديعة في النار، ليس المراد بهما إلا أن صاحبهما فيها، وهذا وعيد شديد. اهـ.

وأما الأيمان: فإن المسلم إذا احتاج إلى الحلف لإثبات أمر، أو نفيه؛ فله أن يحلف باسم من أسماء الله تعالى، أو صفة من صفاته، ولا يجوز أن يحلف بغير ذلك، أو يحرف اسم الله؛ فإن اليمين لا تنعقد إلا بأسماء الله، أو صفاته، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: من كان حالفا، فليحلف بالله، أو ليصمت. متفق عليه.

وتعمد تحريف اسم الله تعالى، أو تغييره بنطق غير صحيح، يعتبر إلحادًا فيه، لا يجوز، ولا تنعقد به اليمين، وقد نهى الله عن ذلك، فقال تعالى:... وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {الأعراف:180}.

وعلى فاعله أن يبادر بالتوبة إلى الله تعالى، وراجع الفتويين: 59934، 106479.

وكذلك تحريف لفظ اليمين، أقشم، بدل أقسم، لا تنعقد به اليمين.

وإن كنت تقصد بالتحريف التورية: وهي ذكر لفظ يحتمل أكثر من معنى، ونية الحالف غير ما يفهمه السامع، تحرزًا من الكذب؛ فإن ذلك يجوز إذا لم يترتب عليه إبطال حق، أو تحقيق باطل.

قال ابن قدامة في المغني: ولا يخلو حال الحالف المتأول من ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يكون مظلوما، مثل من يستحلفه ظالم على شيء، لو صدقه لظلمه، أو ظلم غيره، أو نال مسلما منه ضرر، فهذا له تأويله... وقد روى أبو داود بإسناده عن سويد بن حنظلة، قال: خرجنا نريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، فحلفت أنه أخي، فخلى سبيله، فأتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذكرت ذلك له، فقال: أنت أبرهم، وأصدقهم، المسلم أخو المسلم. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب. يعني سعة المعاريض التي يوهم بها السامع غير ما عناه. قال محمد بن سيرين: الكلام أوسع من أن يكذب ظريف، يعني لا يحتاج أن يكذب؛ لكثرة المعاريض، وخص الظريف بذلك؛ يعني به الكيس الفطن، فإنه يفطن للتأويل، فلا حاجة به إلى الكذب.

الحال الثاني: أن يكون الحالف ظالما، كالذي يستحلفه الحاكم على حق عنده، فهذا ينصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ الذي عناه المستحلف، ولا ينفع الحالف تأويله، وبهذا قال الشافعي، ولا نعلم فيه مخالفا، فإن أبا هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يمينك على ما يصدقك به صاحبك. رواه مسلم، وأبو داود. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اليمين على نية المستحلف. رواه مسلم. وقالت عائشة: اليمين على ما وقع للمحلوف له. ولأنه لو ساغ التأويل، لبطل المعنى المبتغى باليمين، إذ مقصودها تخويف الحالف، ليرتدع عن الجحود، خوفا من عاقبة اليمين الكاذبة، فمتى ساغ التأويل له، انتفى ذلك، وصار التأويل وسيلة إلى جحد الحقوق، ولا نعلم في هذا خلافا. قال إبراهيم في رجل استحلفه السلطان بالطلاق على شيء، فورى في يمينه إلى شيء آخر: أجزأ عنه، وإن كان ظالما لم تجزئ عنه التورية.

الحال الثالث: ألا يكون ظالما، ولا مظلوما، فظاهر كلام أحمد، أن له تأويله .اهـ.

فالظالم الغاشُّ إذا تأوَّل في يمينه، فلا ينفعه التأويل، ولا تنفي عنه إثم اليمين الغموس.

قال الهيتمي في الفتح المبين بشرح الأربعين: ومن حلَّفه القاضي، أو نائبه بالله تعالى.. اعتبرت نية القاضي، واعتقاده، فلا تنفعه التورية، ولا التأويل، ولا تدفع عنه إثم اليمين الغموس، وكذا لو وصلها باستثناءٍ، أو شرط. اهـ.

واليمين الغموس -وهي الحلف على كذب عالما عامدا- من كبائر الذنوب -والعياذ بالله-، وعلى فاعلها أن يتوب إلى الله تعالى، وليس لها كفارة عند جمهور أهل العلم. وذهب الشافعية إلى وجوب الكفارة فيها، وهو الأحوط، وانظر الفتوى: 50626.

والله أعلم.