عنوان الفتوى : التورية في صناعة المعروف
أنا ـ والحمد لله ـ ميسور الحال، و عندي أخي قَدَر الله عليه رزقه، و هو أبو عيال، ولا يرضى أن أساعده، و يقول هو في كفاف، ولكني يعز علي أن أتنعم أنا و عيالي وهو يعيش على الكفاف، فهل لي أن أخذ منه مبلغا من المال و أوهمه أني أستثمره في مشروع ما، و أعطيه كل شهر مقدارا متغيرا من المال على إنه ربح ذاك المشروع؟ علما أني موظف بدخل عال، ولست تاجرا أو مزارعا، أي أنه ليس لدي الإمكانية لأنمي له ماله في مشروع حقيقي ضمن مالي، فهل يكون علي في مثل هذه الحال أثم كذب؟ و هل يكون علي أو عليه أثم ربا إذا صار ماله كالقرض وجر إليه نفعا؟
الحمد لله.
أولا:
جزاك الله خيرا لحرصك على إعانة أخيك وبذل ما بوسعك من معروف لدفع حاجته.
ولكن أن تأخذ من ماله وتوهمه أنك ستستثمره له في مشروع ثم تساعده من مالك، فالأفضل ألا تفعل ذلك، فقد يطول الأمر وربما يكثر منه التساؤل والاستفسارات عن المشروع، فهل ستختلق له كل يوم قصة أو عذرا؟! فربما وقعت في تناقض وأوقعت في نفسه ريبة وأمورا أنت في غنى عنها.
فحاول أن تتلطف في صلة أخيك بما يمكنك، من دفع التزاماته المادية، وإعانته على أمر العيش والحياة، ما استطعت إلى ذلك سبيلا، مبينا له أن ما بينكما من أخوة ورحم تدفع عنه أي حرج، وأنه من المنتظر منه أن يقوم بما تقوم به لو كان هو مكانك وأنت مكانه، وأنك ستشعر بالسعادة أن أخاك قد تفطن لحالك وحفظ كرامتك ولم يتركك تلجأ إلى الغرباء.
ثانيا:
إذا لم تستطع إقناعه بالطريق الأولى فلا بأس أن تسلك الطريق التي ذكرت، فهذا لا يعد من الكذب الذي يلحق الإنسان به الإثم، لكن لو استخدمت التورية فهو الأفضل، بأن تنوي بالاستثمار استثماره في الإحسان إليه وكسب الأجر لنفسك من خلال مساعدته، وتحتفظ بالمال الأصلي له على أنه وديعة توثقه بكتابة عليها أن هذه المال ملك أخيك وتضعها في مكان مأمون لا تستخدمها أبداً.
ففي الحديث عن أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا رواه البخاري (٢٦٩٢)
قال ابن عبد البر رحمه الله: "وقد احتج ابن عيينة في إباحة الكذب فيما ليس فيه مضرة على أحد إذا قصد به الخير ونواه" الاستذكار (8/ 573).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه، وإن لم يمكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب، ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا كان الكذب مباحا وإن كان واجبا كان الكذب واجبا...، والأحوط في هذا كله أن يوري ومعنى التورية: أن يقصد بعبارته مقصودا صحيحا ليس هو كاذبا بالنسبة إليه وإن كان كاذبا في ظاهر اللفظ وبالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب ولو ترك التورية وأطلق عبارة الكذب فليس بحرام في هذا الحال ، واستدل العلماء بجواز الكذب في هذا الحال بحديث أم كلثوم رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا) متفق عليه" انتهى من "شرح رياض الصالحين" (6/ 181).
ومن لطيف ما يذكر هنا: ما أورده ابن كثير في سيرة الإمام عبد الله بن المبارك أنه : " كان إذا عزم على الحج يقول لأصحابه: من عزم منكم على الحج؟
فيأخذ منهم نفقاتهم، ويكتب على كل صرة اسم صاحبها ويجمعها في صندوق، ثم يخرج بهم في أوسع ما يكون من النفقات والركوب، وحسن الخلق والتيسير عليهم.
فإذا قضوا حجتهم يقول لهم: هل أوصاكم أهلوكم بهدية؟ فيشتري لكل واحد منهم ما وصاه أهله من الهدايا المكية واليمنية وغيرها، فإذا جاءوا إلى المدينة اشترى لهم منها الهدايا المدنية.
فإذا قفلوا بعث من أثناء الطريق إلى بيوتهم فأصلحت وبيضت أبوابها ورمم شعثها.
فإذا رجعوا إلى أوطانهم عمل وليمة بعد قدومهم ودعاهم فأكلوا وكساهم.
ثم دعا بذلك الصندوق ففتحه وأخرج منه تلك الصرر، ثم يقسم عليهم أن يأخذ كل واحد نفقته التي عليها اسمه، فيأخذونها وينصرفون إلى منازلهم وهم شاكرون ناشرون لواء الثناء الجميل"، انتهى من "البداية والنهاية" (13/ 611).
ثالثاً:
هذا المال ليس قرضاً، لا من جهة أخيك لأنه أعطاك إياه بنية الاستثمار حسب ظنه، وأخذته بنية الاحتفاظ وليس الارتفاق به واستخدامه، فإذا حفظته -كما ذكرنا سابقا- وقيدته باسم أخيك فهو أمانة ووديعة حسب ظنك وفعلك، وليس من القرض الذي جر نفعاً.
والله أعلم
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |