عنوان الفتوى : هل الآية: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم...) خاصة بفئة معينة كما ذكره بعض المفسرين؟
قرأت في أحد المواقع عن تفسير قول الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)الزمر/53، أنها جاءت خاصة بالتائبين من الشرك، وأيضا في قوله تعالي: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) أنها جاءت خاصة بالتائبين من الشرك. كيف أن هذا ليس للمؤمنين الموحدين من توبة إذا اخطاءوا، وفي قوله تعالى (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)، قال الله تعالى يا عبادي، وبالتالي هي جاءت في كل من يعبد الله تعالى، وليس فئة معينة، ويغفر الذنوب جميعا أي أن الله يغفر جميع الذنوب، ولم يحدد ذنبا معينا. فكيف لهم أن يقولوا هذا؟ كم إن هذا عكس ما جاء عن رسول الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستغفر ويتوب، وهو رسول الله المعصوم من الخطأ، والمغفور ذنبه، حتي نفعل مثله، وجاءت أحاديث كثيرة عن فضل التوبة إلى الله تعالى! تعجبت عندما قرأت هذا التفسير، لذلك أرجو الرد على هذا التفسير، وأليس لنا نحن المسلمين من توبة، أم إن التوبة فقط لمن أشرك؟!
الحمد لله.
أولًا:
ضرورة التوبة وأهميتها
في صريح القرآن المجيد ما يؤكد على أهمية التوبة، وأنها لازمة للمؤمن، نافعة له. يقول الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) التحريم/8.
عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا.
رواه مسلم (2759).
والمسلم يضعف إيمانه، ويغلبه الهوى، ويزين له الشيطان المعصية، فيظلم نفسه، ويقع فيما حرم الله، والله لطيف بالعباد، ورحمته وسعت كل شيء، فمن تاب بعد ظلمه، فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم.
وقد سبق التفصيل في أحكام التوبة في الأجوبة التالية: (14289)، (289765)، (226270).
يقول ابن القيم: "إذا تاب العبد توبة نصوحًا صادقةً خالصةً أحرقت ما كان قبلها من السيئات، وأعادت عليه ثواب حسناته يُوَضِّحُ هذا أنَّ السيئاتِ والذنوب هي أمراضٌ قلبية، كما أن الحمَّى والأوجاع أمراضٌ بدنيةٌ، والمريضُ إذا عُوفي من مرضه عافية تامة عادت إليه قوته وأفضل منها، حتى كأنه لم يَضْعُفْ قط؛ فالقوةُ المتقدِّمة بمنزلة الحسنات، والمرضُ بمنزلة الذنوب، والصحةُ والعافيةُ بمنزلة التوبة سواء بسواء.
وكما أن من المرضى من لا تعود إليه صحته أبدًا؛ لضعف عافيته، ومنهم من تعود صحته كما كانت؛ لتقاوم الأسباب وتدافعها، وعَوْدِ البدن إلى كماله الأول، ومنهم من يعود أصحَّ مما كان وأقوى وأنشط؛ لقوة أسباب العافية وقهرها وغلبتها لأسباب الضعف والمرض، حتى ربما كان مرض هذا سببًا لعافيته، كما قال الشاعر:
لعل عَتْبَك محمودٌ عواقِبُه … وربما صَحَّت الأجسام بالعِلَل
فهكذا العبد بعد التوبة على هذه المنازل الثلاث، والله الموفق، لا إله غيره، ولا رب سواه"، انتهى من "الوابل الصيب" (1/ 24-25).
وقال الطاهر ابن عاشور: في تفسير قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الزمر/53"أطنبت آيات الوعيد بأفنانها السابقة، إطنابًا يبلغ من نفوس سامعيها أيَّ مبلغٍ من الرعب والخوف، على رغم تظاهرهم بقلة الاهتمام بها.
وقد يبلغ بهم وقعها مبلغ اليأس من سعي ينجيهم من وعيدها، فأعقبها الله ببعث الرجاء في نفوسهم للخروج إلى ساحل النجاة إذا أرادوها، على عادة هذا الكتاب المجيد من مداواة النفوس بمزيج الترغيب والترهيب!" انتهى من"التحرير والتنوير" (24/39).
ثانيًا:
المراد بالآية في قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم...)
قوله تعالى: قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) الزمر/53، اختلف العلماء في من عني بهذه الآيات:
1- فقال بعضهم: أن المعني بها قوم من أهل الشرك، قال "الطبري": "فقال بعضهم: عني بها قوم من أهل الشرك، قالوا لما دُعوا إلى الإيمان بالله: كيف نؤمن وقد أشركنا وزنينا، وقتلنا النفس التي حرم الله، والله يعد فاعل ذلك النار، فما ينفعنا مع ما قد سلف منا الإيمان، فنزلت هذه الآية"، انتهى.
2- وقال آخرون: بل المقصود أهل الإسلام، قال الطبري: "وقال آخرون: بل عني بذلك أهل الإسلام، وقالوا: تأويل الكلام: إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء" انتهى.
3- وقال قوم: بل نزلت في أناس كانوا يرون أهل الكبائر في النار، قال الطبري: "وقال آخرون: نزل ذلك في قوم كانوا يرون أهل الكبائر من أهل النار، فأعلمهم الله بذلك أنه يغفر الذنوب جميعًا لمن يشاء".
ورجح الطبري العموم، وأن الله تعالى ذكر في هذه الآية جميع من أسرف على نفسه، سواء بالكفر، أو بالكبائر، أو سائر الذنوب، يقول رحمه الله:
"وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى تعالى ذكره بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك، لأن الله عم بقوله يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم [الزمر: 53] جميع المسرفين، فلم يخصص به مسرفا دون مسرف.
فإن قال قائل: فيغفر الله الشرك؟ قيل: نعم إذا تاب منه المشرك، وإنما عنى بقوله إن الله يغفر الذنوب جميعا [الزمر: 53] لمن يشاء، كما قد ذكرنا قبل أن ابن مسعود كان يقرؤه: وأن الله قد استثنى منه الشرك؛ إذا لم يتب منه صاحبه. فقال: ( إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [النساء/48]، فأخبر أنه لا يغفر الشرك إلا بعد توبة بقوله: إلا من تاب وآمن وعمل صالحا [مريم: 60]؛ فأما ما عداه فإن صاحبه في مشيئة ربه، إن شاء تفضل عليه، فعفا له عنه، وإن شاء عدل عليه فجازاه به".
انتهى من "تفسير الطبري" (20/ 224 - 230).
وقال ابن عطية: "هذه الآية عامة في جميع الناس إلى يوم القيامة في كافر ومؤمن، أي إن توبة الكافر تمحو ذنوبه، وتوبة العاصي تمحو ذنبه".
انتهى من "تفسير ابن عطية" (4/536).
وقال ابن القيم: "وقد ضمن الله سبحانه لمن تاب من الشرك وقتل النفس والزنى؛ أنّه يبدّل سيئاتِه حسناتٍ. وهذا حكم عامّ لكلّ تائب من كلّ ذنب. وقد قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) [الزمر: 53]، فلا يخرج من هذا العموم ذنب واحد. ولكن هذا في حقّ التائبين خاصة"، انتهى من "الداء والدواء" (385).
وكأن من قال من السلف بأن الآية في من أشرك بالله: نظر إلى سبب نزولها، وأنها في خوف الكفار ألا يغفر لهم؛ مع أنه لا خفاء في أن مغفرة الذنب لعصاة الموحدين أظهر، وباب الرحمة لهم أوسع. هذا، إن لم يتب عصاة الموحدين؛ فكيف إذا تاب من معصيتهم؟ لا شك أنهم داخلون في عموم الوعد بالمغفرة للعباد ( إن الله يغفر الذنوب جميعا ) ؛ فقصارى أمرهم : أنهم أصحاب ذنوب، قد تابوا منها كما تاب المشركون؛ فالوعد يشملهم بطريق الأولى.
وكذلك يقال في الآية الثانية، فإنها في سياق الحديث عن التوبة من الشرك، قال "الطبري": "وقوله: وإني لغفار لمن تاب [طه: 82] يقول: وإني لذو غفر لمن تاب من شركه، فرجع منه إلى الإيمان لي وآمن، يقول: وأخلص لي الألوهة، ولم يشرك في عبادته إياي غيري وعمل صالحا [البقرة: 62] يقول: وأدى فرائضي التي افترضتها عليه، واجتنب معاصي ثم اهتدى [طه: 82] يقول: ثم لزم ذلك، فاستقام ولم يضيع شيئًا منه"، انتهى من "تفسير الطبري" (16/126).
وقد فهم السلف ذلك، فقد نقل الثعلبي أقوالهم، فقال: "وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ بربه.
وَعَمِلَ صَالِحًا فيما بينه وبين الله.
ثُمَّ اهْتَدَى قال قتادة وسفيان والثوري: يعني: لزم الإسلام حتى مات عليه.
وقال زيد بن أسلم: يعني: تعلم العلم ليهتدي كيف يعمل.
وقال الشعبي ومقاتل والكلبي: علم أن لذلك ثوابًا.
وقال فضيل الناجي وسهل بن عبد الله التستري: أقام على السنة والجماعة.
وقال الضحاك: يعني: استقام" انتهى من "تفسير الثعلبي" (18/ 40-41).
وقد فهم العلماء العموم كذلك، قال ابن كثير: "وقوله: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا أي: كل من تاب إلي، تبت عليه من أي ذنب كان، حتى إنه تعالى تاب على من عبد العجل من بني إسرائيل" انتهى من"تفسير ابن كثير" (5/308).
وقال: " وقوله: إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم هذا استثناء منقطع، وفيه بشارة عظيمة للبشر، وذلك أن من كان على عمل شيء ثم أقلع عنه، ورجع وأناب، فإن الله يتوب عليه، كما قال تعالى: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى [طه: 82] ، وقال تعالى: ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما [النساء: 110] والآيات في هذا كثيرة جدًّا" انتهى من "تفسير ابن كثير" (6/180).
والله أعلم.