عنوان الفتوى : كيف يكون التفاعل مع آيات القرآن؟
ماذا يجب علينا أن نفعل عندما نقابل آية فيها استفهام بالقرآن، كما ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم حينما سمع امرأة تقرأ: (هل أتاك حديث الغاشية)، فقال نعم قد جاءنى، ومثلا فى قوله تعالى: (هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون)، فهل نقول: نعم ثوبوا؟
الحمد لله.
أولًا:
عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: " صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ.
فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ.
ثُمَّ مَضَى.
فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ!
فَمَضَى فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا! ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا.
يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ.
ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ.
فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ.
ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ.
ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ" "مسلم" (772).
قال الوزير ابن هبيرة في فقه هذا الحديث: "وفيه أيضًا من الفقه: أنه إذا كان في صلاة فمرت به آية رحمة، فشاء أن يسألها الله تعالى مغتنمًا ما في القرآن من مناسبة الطلب: سألها؛ فإن القرآن وحي مجدد. وإذا مر بآية فيها تسبيح الله تعالى، فإنه يسبح الله بما روي في الأخبار.
وليعلم أنه في مقام كريم لا يلائمه المطالب الدنيا.
وإذا مر بآية عذاب للكافرين استعاذ بالله تعالى، من مثل أن يقرأ قوله: واستغفر لذنبك، فيقول الحديث المروي وهو: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).
ومثل أن يأتي قوله عز وجل: ما لكم لا ترجون لله وقارًا، فيقول ها هنا: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك).
وفي مثل قوله سبحانه في ذكر تسبيحه سبحانه وتعالى: يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وقد سبق أن معنى قولنا: (سبحان الله) أنه تنزيه له عز وجل عن كل مالا يجوز عليه، ثم يقول: (وبحمده) أي وبحمده سبحته، ولذلك يقول: (سبحان الله العظيم).
وهذا فلا أراه إلا في النافلة.
فأما الفريضة فيقصرها على أذكارها، مع التفكر في كل ذكر من أذكارها، فإنها حاوية شاملة جامعة، وليكن في إنجازه بها مبادرًا الوسواس"، انتهى من"الإفصاح عن معاني الصحاح" (2/ 237).
وما ذكره ابن هبيرة من كراهته في الفرض، وجوازه في النفل: رواية عن أحمد، ورجحه ابن قدامة.
واختار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله جوازه في الفريضة، واستحبابه في النافلة.
انظر: "الجامع في أحكام صفة الصلاة"، "الدبيان" (3/ 301).
قال النووي رحمه الله في "المجموع" (3/562): " قال الشافعي وأصحابنا: يسن للقارئ في الصلاة وخارجها إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى الرحمة، أو بآية عذاب أن يستعيذ به من العذاب ، أو بآية تسبيح أن يسبح، أو بآية مَثَلٍ أن يتدبر.
قال أصحابنا: ويستحب ذلك للإمام والمأموم والمنفرد … وكل هذا يستحب لكل قارئ في صلاته أو غيرها، وسواء صلاة الفرض والنفل والمأموم والإمام والمنفرد؛ لأنه دعاء فاستووا فيه كالتأمين، ودليل هذه المسألة حديث حذيفة رضي الله عنه … هذا تفصيل مذهبنا: وقال أبو حنيفة رحمه الله: يكره السؤال عند آية الرحمة والاستعاذة في الصلاة.
وقال بمذهبنا جمهور العلماء من السلف فمن بعدهم " انتهى.
وانظر الأجوبة رقم: (96028)، ورقم: (85481).
وينظر لمزيد الفائدة: بحث محرر حول المسألة في هذا الرابط.
ثانيًا:
أما الحديث المذكور في السؤال فهو عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ تَقْرَأُ: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فَقَامَ يسمع فقال: (نعم، قد جاءني).
رواه "ابن أبي حاتم" (10/ 3414)، ورواه كذلك (10/ 3420) في تفسير سورة الغاشية، بلفظ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ تَقْرَأُ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ فَقَامَ يَسْمَعُ وَيَقُولُ: (نَعَمْ قَدْ جَاءَنِي).
وهو حديث مرسل، رواه ابن أبي حاتم بإسناده من مرسل عمرو ابن ميمون، وهو مخضرم، أدرك الجاهلية، ولم يلقَ النبي صلى الله عليه وسلم، وبقية رجاله ثقات، والله أعلم.
وعلى كلِّ: فليس في الحديث أن ذلك كان في صلاة.
فالحاصل:
أن تفاعل الإنسان مع ما يتلوه من الآيات أمر مهم، وهو مما دعا إليه ربنا تبارك وتعالى، غير أن التفاعل ليس خاصا بما ذكر في السؤال: أن يدعو في محل الدعاء، ويستغفر في محله، ويسبح عند ورود التسبيح؛ فإن ذلك وإن كان حسنا مشروعا، على ما سبق التفصيل فيه؛ فليس هو "التفاعل الوحيد"، بل ليس هو التفاعل الأكمل، وإنما التفاعل الأعظم والأكمل: أن يتدبر معانيه، وينفعل بها، فيعمل بما فيه من أمر ونهي، ويتعظ بما فيه من المواعظ.
ومن جليل ما جاء في ذلك: ما حصل في حديث الإفك؛ حيث قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ ، وكان مسطح ممن خاض في الأفك، ووقع في أمنا عائشة رضي الله عنها؛ فقال أبو بكر: وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا، بَعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ !!
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ - إلى قوله ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم).
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: (بَلَى؛ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ) رواه "البخاري" (2518)، و"مسلم" (2770).
وهذا من تفاعل الصديق رضي الله عنه بالآيات.
ومن ذلك أيضا: تفاعل الصحابيات الجليلات مع أمر الله لهن بلبس الخمار، فلم يتأخرن عن ذلك، بل بادرن به:
فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) : شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا ) رواه البخاري ( 4480 ) .
وينظر في ذلك جواب السؤال رقم: (120392).
ولما نزل قول الله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) المائدة/91 ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( انْتَهَيْنَا، انْتَهَيْنَا ) . رواه أحمد في المسند (378)، وقال محققوه: "إسناده صحيح".
وأمثلته كثيرة.
والله أعلم.