عنوان الفتوى : حكم الصلاة في مسجد يُحتَمل وجود قبور غير معروفة تحت أرضه
هناك مسجد يقع في زاوية عتيقة لتحفيظ القرآن الكريم، هذه الزاوية فيها ضريحان من جهة القبلة. تمت إزالة أحدهما، وهو الضريح المشهورة به هذه الزاوية، كما يوجد قبر ملاصق لحائط المسجد من الخلف من الخارج. ومع مرور الوقت بدأت عملية التوسعة ببناء مسجد حديث، تم ربطه بالمسجد القديم عن طريق ممر، ويفصل بينهما باب من جهة المسجد الحديث يدخل منه المصلون، مع العلم أنه عند عملية التوسعة وإنشاء ممر، وجدت آثار لقبور تحت سطح الأرض، أي غير بارزة، كما أن الصلاة في الوقت الحاضر محصورة في المسجد المبني حديثاً، والذي يظهر أنه خال من القبور. فما حكم الصلاة في هذا المسجد؟ وجزاكم الله خيراً، وزادكم علماً نافعاً.
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإذا لم يكن ثمت قبر بارز داخل المسجد، وكان القبر أو القبور خارجه، ويفصل بينها وبين المسجد حائط؛ فإنه لا حرج في الصلاة فيه.
هذا هو المفتى به عندنا فيما لو فصل بين المسجد وبين القبر حائط، وذهب بعض الفقهاء إلى أن حائط المسجد وحده لا يكفي. وهذا إحدى الروايتين عن أحمد.
جاء في مطالب أولي النهى -من كتب الحنابلة-: وَلَا يَكْفِي حَائِطُ الْمَسْجِدِ نَصًّا، جَزَمَ بِهِ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ: الْمَجْدُ، وَابْنُ تَمِيمٍ، وَالنَّاظِمُ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَدَّمَهُ فِي "الرعايتين"، وَ"الْحَاوِيَيْنِ" وَغَيْرِهِمْ، لِكَرَاهَةِ السَّلَفِ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدٍ قِبْلَتُهُ حَشٌّ ... اهـ.
والمفتى به عندنا -كما ذكرنا- أن جدار المسجد يكفي.
وقد سئل ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- عما إذا فصل بين المقبرة وبين المسجد بجدار المسجد فقط.
فأجاب بقوله: إذا كانت المقبرة عن يمين مستقبل القبلة أو يساره، أو خلفه فلا بأس ..... وأما إذا كانت القبور في القبلة فإن الأمر أشد، ولولا جدار المسجد الذي يحول بين المسجد وبين القبور لقلنا إن الصلاة لا تصح بكل حال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصلوا إلى القبور ...اهــ.
وأما مظنة وجود قبور غير معروفة تحت المسجد، فإن هذا لا يؤثر إذ الأصل عدم وجودها، ثم إن العبرة في المنع من الصلاة في مكان فيه قبر، بالقبور الظاهرة لا المخفية، كما نص عليه أهل العلم.
قال الشيخ الألباني في رسالته: "تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد" في معرض رده على من زعم أن قبر إسماعيل عليه السلام موجود في الحجر.
قال: القبور المزعوم وجودها في المسجد الحرام غير ظاهرة، ولا بارزة، ولذلك لا تقصد من دون الله تعالى، فلا ضرر من وجودها في بطن أرض المسجد، فلا يصح حينئذ الاستدلال بهذه الآثار على جواز اتخاذ المساجد على قبور مرتفعة على وجه الأرض؛ لظهور الفرق بين الصورتين. اهـ.
وبهذا أجاب الشيخ علي القاري -رحمه الله تعالى- فقال في "مرقاة المفاتيح" بعد أن حكى قول المفسر الذي أشرت إليه في التعليق: وذكر غيره أن صورة قبر إسماعيل عليه السلام في الحجر تحت الميزاب، وأن في الحطيم بين الحجر الأسود وزمزم قبر سبعين نبيا.
قال القاري: وفيه أن صورة قبر إسماعيل عليه السلام وغيره مندرسة، فلا يصلح الاستدلال ..
وهذا جواب عالم نحرير، وفقيه خريت، وفيه الإشارة إلى ما ذكرناه آنفا، وهو أن العبرة في هذه المسألة بالقبور الظاهرة، وأن ما في بطن الأرض من القبور لا يرتبط به حكم شرعي من حيث الظاهر، بل الشريعة تنزه عن مثل هذا الحكم؛ لأننا نعلم بالضرورة والمشاهدة أن الأرض كلها مقبرة الأحياء، كما قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا {المرسلات:-2626}.
قال الشعبي: بطنها لأمواتكم، وظهرها لأحيائكم ....
ومن البين الواضح أن القبر إذا لم يكن ظاهرا، غير معروف مكانه، فلا يترتب من وراء ذلك مفسدة، كما هو مشاهد حيث ترى الوثنيات والشركيات إنما تقع عند القبور المشرفة حتى ولو كانت مزورة، لا عند القبور المندرسة ولو كانت حقيقة. فالحكمة تقتضي التفريق بين النوعين، وهذا ما جاءت به الشريعة، كما بينا سابقا، فلا يجوز التسوية بينهما.
والله تعالى أعلم.