عنوان الفتوى : تفسير قوله تعالى: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون. ما تفسير هذه الآية؟ وهل المؤمن لديه شركيات؟ وهل يعذب عليها؟
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فأما تفسير الآية، فقد جاء في أيسر التفاسير للشيخ أبي بكر الجزائري في تفسير هذه الآية: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}. يخبر تعالى رسوله أن من يدعوهم إلى الإيمان به، وبما جاء به، ما يؤمن أكثرهم بالله رباً خالقاً رازقاً، إلا وهم مشركون به أصناماً وأوثاناً يعبدونها، وهي حقيقة قائمة لو سئل يهودي أو نصراني عن الخالق الرازق، المحيي المميت، المدبر للكون، لقال: الله، ولكن هو به مشرك، يعبد معه غيره ... اهــ.
وقد قيل في المعنيين، بقوله تعالى: "أكثرهم" في هذه الآية ثلاثة أقوال، لخصها ابن الجوزي في زاد المسير، فقال: قوله تعالى: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ. فيهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم المشركون، ثم في معناها المتعلق بهم قولان:
أحدهما: أنهم يؤمنون بأن الله خالقهم ورازقهم، وهم يشركون به، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، والشعبي، وقتادة.
والثاني: أنها نزلت في تلبية مشركي العرب، كانوا يقولون: لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك، إِلا شريكاً هو لكْ، تملكه وما ملك، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: أنهم النصارى، يؤمنون بأنه خالقهم ورازقهم، ومع ذلك يشركون به، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: أنهم المنافقون، يؤمنون في الظاهر رئاء للناس، وهم في الباطن مشركون، قاله الحسن.
فان قيل: كيف وصف المشرك بالإِيمان؟ فالجواب: أنه ليس المراد به حقيقة الإِيمان، وإِنما المعنى: أن أكثرهم، مع إِظهارهم الإيمان بألسنتهم، مشركون. اهــ.
وبهذا تعلم أن الآية إنما نزلت في الشرك الأكبر، فليست هي في المؤمنين إذن؛ لأنها تتعلق بالشرك الأكبر في حق اليهود والنصارى من جهة إقرارهم بتوحيد الربوبية، وشركهم في الألوهية، أو من جهة المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر.
وأما المؤمن فإنه وإن لم يدخل في تلك الآية، لكنه قد يقع في شيء من الشرك الأصغر؛ كالحلف بغير الله تعالى ونحو ذلك.
قال ابن القيم في مدارج السالكين: وَأَمَّا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ فَكَيَسِيرِ الرِّيَاءِ، وَالتَّصَنُّعِ لِلْخَلْقِ، وَالْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» وَقَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، وَهَذَا مِنَ اللَّهِ وَمِنْكَ، وَإِنَّا بِاللَّهِ وَبِكَ، وَمَا لِي إِلَّا اللَّهُ وَأَنْتَ، وَأَنَا مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ وَعَلَيْكَ، وَلَوْلَا أَنْتَ لَمْ يَكُنْ كَذَا وَكَذَا ... اهـ.
وأما هل يعذب المؤمن على هذا الشرك الأصغر، فإذا مات المسلم على هذا الشرك الأصغر، فهو تحت المشيئة إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه، ويرى بعض العلماء أن الشرك الأصغر لا يغفر كالشرك الأكبر، وليس صاحبه تحت المشيئة، بدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} و"أن يشرك به" مؤول بمصدر تقديره: شركا به، وهو نكرة في سياق النفي، فيفيد العموم، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية، واختيار ابن عثيمين.
فقد قال رحمه الله تعالى: والشرك وإن كان أصغر، فإن الله تعالى لا يغفره؛ لعموم قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ). وقال بعض العلماء: إن الشرك الأصغر داخلٌ تحت المشيئة، لكن الذي يظهر القول الأول، وأنه لا يغفر، لكن صاحبه لا يخلد في النار. اهـ.
والله تعالى أعلم.