عنوان الفتوى : استعانة الإنس بالجن

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

ما حكم الاستعانة بالجن المسلم أو غير المسلم؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له، فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له، وهذا كأن يأمرهم بما يجب عليهم، وينهاهم عما حرم عليهم، ويستعملهم في مباحات له، فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك، وهذا إذا قدر أنه من أولياء الله، فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي صلى الله عليه وسلم مع العبد الرسول –كسليمان، ويوسف، مع إبراهيم، وموسى، وعيسى-. (مجموع فتاويه) وهل هذا الكلام صحيح؟ فهناك فريقان، يقول أحدهما: إن الاستعانة بالجن أنواع: الكثير منها شرك، لكن البعض منها حرام، ووسيلة إلى الشرك، استدلالًا بالآية القرآنية: "ويوم يحشرهم جميعًا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ... (الأنعام : 128)، هل هذا الاستدلال صحيح؟ ويقول الآخر: إنه شرك أكبر يخرج من الملة، دليلهم الآيات المتعددة التي تفيد أن كل استعانة بالجن مطلقًا شرك أكبر، فما الصحيح؟ ماذا نختار منهما؟ نرجو التفصيل.

مدة قراءة الإجابة : 6 دقائق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فقد اختلف أهل العلم في حكم استعانة الإنس بالجن، ومحل اختلافهم هو الاستعانة بهم في تحصيل المنافع المباحة، مع السلامة من شرهم وشركهم، وأما في أعمال الشر والفساد، أو مع الوقوع في شيء من المحاذير الشرعية، فلا يستعان بهم قطعًا، وهذا الخلاف سبق أن ذكرناه في عدة فتاوى، ورجحنا في أكثرها المنع مطلقًا، وراجع من ذلك الفتويين: 54462، 127644. وأما كلام شيخ الإسلام فراجع في توجيهه مع ما سبق الفتوى رقم: 7369.

ونضيف هنا أن كلام شيخ الإسلام ينبغي أن ينظر فيه، ويحرر معناه ومقصده، ثم ينظر بعد ذلك في حال من يطبقه في الواقع، وقد نبه الشيخ ابن عثيمين إلى ذلك، وهو ممن يرى الجواز استنادًا على كلام شيخ الإسلام، حيث جاء في كتاب الأستاذ الدكتور عبد الله الطيار (لقاءاتي مع الشيخين ابن باز وابن عثيمين ص 67) السؤال الثالث للشيخ ابن عثيمين: ما حكم الاستعانة بالجن في علاج المصروع؟
الجواب: الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا بأس بها، فلا حرج في الاستعانة بهم، أما تصديقهم وتكذيبهم، فهذا لا بد أن ينظر فيه. وعلى العموم الأمر ليس بالسهل! فمن هو الذي يستعين بهم؟ ولماذا؟ وكيف؟ كل ذلك محل نظر، فليتثبت في الأمر. اهـ.

وهذا شيخ الإسلام نفسه يقول: الذين يستخدمون الجن في المباحات يشبه استخدام سليمان، لكن أعطي ملكًا لا ينبغي لأحد بعده، وسخرت له الإنس والجن، وهذا لم يحصل لغيره! والنبي صلى الله عليه وسلم لما تفلت عليه العفريت ليقطع عليه صلاته، قال: "فأخذته، فذعته حتى سال لعابه على يدي، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، ثم ذكرت دعوة أخي سليمان، فأرسلته" فلم يستخدم الجن أصلًا؛ لكن دعاهم إلى الإيمان بالله، وقرأ عليهم القرآن، وبلغهم الرسالة، وبايعهم، كما فعل بالإنس. والذي أوتيه صلى الله عليه وسلم أعظم مما أوتيه سليمان؛ فإنه استعمل الجن والإنس في عبادة الله وحده، وسعادتهم في الدنيا والآخرة، لا لغرض يرجع إليه، إلا ابتغاء وجه الله، وطلب مرضاته، واختار أن يكون عبدًا رسولًا على أن يكون نبيًّا ملكًا. اهـ. ولنا فيه صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة.

وقال الباحث خليل إبراهيم في كتابه: (الرقية والرقاة بين المشروع والممنوع): قد اتخذ بعض الرقاة كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- متكئًا على مشروعية الاستعانة بالجن المسلم في العلاج بأنه من الأمور المباحة، ولا أرى في كلام شيخ الإسلام ما يسوِّغ لهم هذا، فإذا كان من البدهيّات المُسَلّم بها أنَّ الجن من عالم الغيب، يرانا ولا نراه، الغالب عليه الكذب، معتد ظلوم غشوم، لا يعرف العذر بالجهل، مجهولة عدالته؛ لذا روايته للحديث ضعيفة، فما هو المقياس الذي نحكم به على أن هذا الجني مسلم، وهذا منافق، وهذا صالح، وذاك طالح؟ لذا الاستعانة بالجن المسلم (كما يدعي البعض) في العلاج لا تجوز؛ للأسباب التالية:

أولاً: قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى ورُقي، وأمر أصحابه بالرقية، فاجتمع بذلك فعله، وأمره، وإقراره صلى الله عليه وسلم. فلو كانت الاستعانة بالجن المسلم -كما يدعي البعض- فضيلة، ما ادخرها الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم يوم سحرته يهود، ولا عن أصحابه -رضي الله عنهم- وهم خير الخلق وأفضلهم بعد أنبيائه، وفيهم من أصابه الصرع، وفيهم من أصابته العين، وفيهم من تناوشته الأمراض من كل جانب، فما نقلت لنا كتب السنة عن راق فيهم استعان بالجن.

ثانيًا: الاستعانة بالجني المسلم- كما يدّعي البعض- تعلّق قلب الراقي بهذا الجني، وهذا ذريعة لتفشِّي استخدام الجن -مسلمهم وكافرهم- ومن ثم يصبح وسيلة من وسائل الشرك بالله جل وعلا، وخرق ثوب التوحيد. ومن فهم مقاصد الشريعة تبين له خطورة هذا الأمر، فما قاعدة: (سد الذرائع) إلا من هذا القبيل.

ثالثًا: يجب المفاصلة بين الراقي بالقرآن والساحر -عليه لعنة الله-، وهذا الأمر فيه مشابهة لفعل السحرة، فالساحر يستعين بالجن، ويساعدونه، ويقضون له بعض حوائجه؛ لذا قد يختلط الأمر على من قلّ حظه من العلم، فيساوي بين الراقي بالقرآن والساحر، فيروج بذلك سوق السحرة، وهذا من المفاسد العظيمة على العقيدة.

رابعًا: من المعلوم أن الجن أصل خلقته من النار، والنار خاصيتها الإحراق، فيغلب على طبعه الظلم، والاعتداء، وسرعة التقلب، والتحول من حال إلى حال، فقد ينقلب من صديق إلى ألد الأعداء، ويذيق صاحبه سوء العذاب؛ لأنه أصبح خبيرًا بنقاط ضعفه.

احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة

فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة.

فمن أراد التخلص من هذا الأمر، فليستشعر أن الحق في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته -رضي الله عنهم أجمعين- والتابعين من أئمة الهدى والتقى والدين، وليترك التعرّج على كل ما خالف طريقتهم كائنًا ما كان. فهل بعد سبيل الله ورسوله إلا سبيل الشيطان!؟. اهـ.

والله أعلم.