عنوان الفتوى : سؤال الله لعيسى عليه السلام: (ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ...).
في قوله تعالى: (وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ) قرأت أن وجه سؤال الله تعالى ذكره عيسى عليه السلام ذلك السؤال يحتمل تأويله وجهين، الأول تحذير عيسى عن ذلك ونهيه، والثاني إعلامه بأن قومه قاموا بمخالفة ما جاء به. أما التأويل الأول فكيف يحذر الله جل وعلا عيسى عليه السلام بما فات وحدث؟ وإن كان التأويل الثاني هو الأصح بناء على أحد تفاسير تلك الآية أن الله سبحانه يقول ذلك يوم القيامة فكيف وعيسى في الأحاديث الشريفة سينزل في آخر الزمان ليكسر الصليب ويتبعه الناس ويوحد الأمة من جديد ويتبع سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فبالتأكيد سيكون على علم بما قام به قومه قبل يوم القيامة! فما التفسير الواضح والصحيح؟
الحمد لله.
أولًا:
سبب سؤال الله تعالى لعيسى: (ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ)
سؤال الله جل جلاله لعبده ونبيه عيسى ابن مريم عليه السلام، ليس من باب التنقيص له، وإنما لأجل الغلو الذي حصل فيه، وإقامة الحجة على الغلاة الضلال: بأن عيسى عليه السلام برئ من قولهم وضلالهم، لم يأمرهم، ولم يرض بشركهم؛ بل هو بريء منهم ومن ضلالاتهم.
قال ابن تيمية في "الاستغاثة" (232): "قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [المائدة: 17]، فذكر أهل الأرض جميعًا؛ وخص المسيح وأمه بالذكر؛ من أنه إن أراد إهلاكهم لن يملك أحد لهم منه شيئًا، لأن المسيح وأمه اتُخِذَا إلهين كما قال تعالى: (وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ)، فكان التخصيص بالذكر، لنفي هذا الشرك والغلو الذي وقع في المسيح وأمه، ولم يكن ذلك من باب التنقيص بالمسيح وأمه، بل كان التخصيص لأجل أن الكلام وقع في ذلك المعين"، انتهى.
ثانيًا:
متى خوطب عيسى عليه السلام بقوله تعالى (إن تعذبهم فإنهم عبادك...)؟
قوله تعالى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فإن العلماء اختلفوا في وقت الخطاب بهذا الخطاب، فذهب بعضهم أنه حين رفع عيسى إلى السماء، وذهب بعضهم إلى أنه في الآخرة،
الأول: إن الله قال هذا القول لعيسى حين رفعه إليه في الدنيا.
الثاني: وقال آخرون: بل هذا خبر من الله تعالى ذكره عن أنه يقول لعيسى ذلك في القيامة. انظر: "تفسير الطبري" (9/ 132 - 134).
وذكر الإمام الطبري وجه سؤال الله لعيسى عليه السلام على القول الأول، وهو: أنه سأله حين رفعه إليه، ذكر وجه ذلك بأحد أمرين:
أحدهما: تحذير عيسى عن قيل ذلك ونهيه.
والآخر: إعلامه أن قومه الذين فارقهم قد خالفوا عهده وبدلوا دينهم بعده، فيكون بذلك جامعًا إعلامه حالهم بعده، وتحذيره له قبله. انظر: "تفسير الطبري" (9/ 132 - 134).
وعلى هذا؛ فإن الكلام متجهٌ صحيحٌ؛ إذ يحذر الله عيسى من قول ذلك حين ينزل آخر الزمان، أو أنه توبيخ لقوم عيسى، وتحذير له عن هذِه المقالة، ونهي عنها، وإعلامه بذلك بصنيع قومه على جهة التحذير له، والتوبيخ لهم، كما يقول القائل للآخر: أفعلت كذا وكذا؟ فيما يعلم أنه لم يفعله، إعلامًا واستعظامًا، لا استخبارًا واستفهامًا.
وأيضًا: أراد الله تعالى أن يقر عيسى على نفسه بالعبودية، ويظهر منه تكذيبهم وتخطئتهم، وأنه لم يأمرهم بذلك، فتكون حجة عليهم، فذلك قوله أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ معبودين من دون الله.
وانظر "تفسير الثعلبي" (11/ 568).
والتحذير والتهديد متجهٌ مع ما يقتضيه المقام من إثبات الوحدانية، قال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحي المعلمي اليماني: " وما اعتُرِضَ به من أن قوله تعالى: مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ تهديد، وهو لا يناسب مقام الملائكة: غفلة عما يقتضيه المقام؛ فإن المقام يقتضي تأكيد الوحدانية، وأنه لا هَوادة فيه للملائكة ولا غيرهم، وذلك كقوله تعالى لعيسى عليه السلام: (ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ)المائدة: 116]؛ فإنه لا يخفى ما في هذا السؤال من صورة التهديد، ولذلك جاء عن السلف أن عيسى عليه السلام يعتريه من خشية الله عزَّ وجلَّ عند السؤال أمر عظيم"، انتهى من "مجموع الآثار" (2/ 439).
والإعلام واضح، لأنهم انقسموا بعد رفع عيسى عليه السلام.
قال السدي وقطرب: "إن الله -عز وجل- قال هذا القول لعيسى حين رفعه إليه، وقالت النصارى فيه ما قالت"، انتهى من "تفسير الثعلبي" (11/ 566).
ثالثًا:
في هذا السؤال تهديد وتوبيخ للنصارى
ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه المقالة لعيسى عليه السلام يوم القيامة، وأن هذا تهديد للنصارى وتوبيخ لهم، قال ابن كثير: " هذا أيضا مما يخاطب الله تعالى به عبده ورسوله عيسى ابن مريم، عليه السلام، قائلا له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله: وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟
وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد. هكذا قاله قتادة وغيره، واستدل قتادة على ذلك بقوله تعالى: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم.
وقال السدي: هذا الخطاب والجواب في الدنيا.
قال ابن جرير: هذا هو الصواب، وكان ذلك حين رفعه الله إلى سماء الدنيا. واحتج ابن جرير على ذلك بمعنيين:
أحدهما: أن الكلام بلفظ المضي.
والثاني: قوله: إن تعذبهم، وإن تغفر لهم
وهذان الدليلان فيهما نظر؛ لأن كثيرا من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي، ليدل على الوقوع والثبوت.
ومعنى قوله: إن تعذبهم فإنهم عبادك الآية: التبري منهم ورد المشيئة فيهم إلى الله، وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه، كما في نظائر ذلك من الآيات.
والذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر، والله أعلم: أن ذلك كائن يوم القيامة، ليدل على تهديد النصارى، وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة.
... وقوله: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم: هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله، عز وجل، فإنه الفعال لما يشاء، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله، وعلى رسوله، وجعلوا لله ندا وصاحبة وولدا، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وهذه الآية لها شأن عظيم ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها"، التفسير: (3/ 232)، بتصرف.
قال ابن جزي: "فيها سؤالان.
الأول: كيف قال: (وإن تغفر لهم)، وهم كفار؛ والكفار لا يغفر لهم؟
والجواب أن المعنى: تسليم الأمر إلى الله، وأنه إن عَذب، أو غفر: فلا اعتراض عليه، لأن الخلق عبادُه، والمالكُ يفعل في ملكه ما يشاء، ولا يلزم من هذا وقوع المغفرة للكفار، وإنما يقتضي جوازها في حكمة الله تعالى وعزته، وفرق بين الجواز والوقوع.
وأما على قول من قال: إن هذا الخطاب لعيسى عليه السلام حين رفعه الله إلى السماء، فلا إشكال، لأن المعنى إن تغفر لهم بالتوبة، وكانوا حينئذ أحياء، وكل حيّ معرض للتوبة.
السؤال الثاني: ما مناسبة قوله: فإنك أنت العزيز الحكيم، لقوله: وإن تغفر لهم، والأليق مع ذكر المغفرة أن لو قيل: فإنك أنت الغفور الرحيم؟
والجواب من ثلاثة أوجه.
الأول: يظهر لي أنه لما قصد التسليم لله، والتعظيم له، كان قوله: فإنك أنت العزيز الحكيم أليق، فإن الحكمة تقتضي التسليم له، والعزة تقتضي التعظيم له، فإن العزيز هو الذي يفعل ما يريد، ولا يغلبه غيره، ولا يمتنع عليه شيء أراده، فاقتضى الكلام تفويض الأمر إلى الله في المغفرة لهم أو عدم المغفرة، لأنه قادر على كلا الأمرين لعزته، وأيهما فعل فهو جميل لحكمته.
الجواب الثاني: قاله شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: إنما لم يقل الغفور الرحيم: لئلا يكون في ذلك تعريض في طلب المغفرة لهم، فاقتصر على التسليم والتفويض دون الطلب، إذ لا تُطلب المغفرة للكفار، وهذا قريب من قولنا.
الثالث: حكى شيخنا الخطيب أبو عبد الله بن رشيد، عن شيخه إمام البلغاء في وقته حازم بن حازم أنه كان يقف على قوله: إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ، ويجعل فإنك أنت العزيز استئنافًا، وجواب إن في قوله فإنهم عبادك؛ كأنه قال: إن تعذبهم وإن تغفر لهم فإنهم عبادك على كل حال"، انظر: التسهيل، لابن جزي: (1/ 252).
قال ابن القيم: "ومن هاهنا كان قول المسيح عليه السلام إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم [المائدة: 118]، أحسن من أن يقول: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، أي إن غفرت لهم كان مصدر مغفرتك عن عزة، وهي كمال القدرة، وعن حكمة، وهي كمال العلم، فمن غفر عن عجز وجهل بجرم الجاني، فأنت لا تغفر إلا عن قدرة تامة، وعلم تام، وحكمة تضع بها الأشياء مواضعها.
فهذا أحسن من ذكر الغفور الرحيم في هذا الموضع، الدال ذكره على التعريض بطلب المغفرة في غير حينها، وقد فاتت، فإنه لو قال: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، كان في هذا من الاستعطاف والتعريض بطلب المغفرة لمن لا يستحقها، ما ينزه عنه منصب المسيح عليه السلام، لا سيما والموقف موقف عظمة وجلال، وموقف انتقام ممن جعل لله ولدا، واتخذه إلها من دونه، فذكر العزة والحكمة فيه أليق من ذكر الرحمة والمغفرة"، مدارج السالكين: (1/ 59).
وقال: "ثم قال: إن تعذبهم فإنهم عبادك [المائدة: 118]: وهذا من أبلغ الأدب مع الله في مثل هذا المقام. أي شأن السيد رحمة عبيده والإحسان إليهم. وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيدا لغيرك. فإذا عذبتهم - مع كونهم عبيدك -؛ فلولا أنهم عبيد سوء من أنحس العبيد، وأعتاهم على سيدهم، وأعصاهم له؛ لم تعذبهم. لأن قربة العبودية تستدعي إحسان السيد إلى عبده ورحمته، فلماذا يعذب أرحم الراحمين، وأجود الأجودين، وأعظم المحسنين إحسانا، عبيده؟ لولا فرط عتوهم، وإباؤهم عن طاعته، وكمال استحقاقهم للعذاب.
وقد تقدم قوله: إنك أنت علام الغيوب [المائدة: 116] أي هم عبادك، وأنت أعلم بسرهم وعلانيتهم؛ فإذا عذبتهم: عذبتهم على علم منك بما تعذبهم عليه، فهم عبادك وأنت أعلم بما جنوه واكتسبوه.
فليس في هذا استعطاف لهم، كما يظنه الجهال، ولا تفويض إلى محض المشيئة والملك المجرد عن الحكمة، كما تظنه القدرية؛ وإنما هو إقرار واعتراف وثناء عليه سبحانه بحكمته وعدله، وكمال علمه بحالهم، واستحقاقهم للعذاب.
ثم قال: وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم [المائدة: 118]، ولم يقل: الغفور الرحيم، وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى، فإنه قاله في وقت غضب الرب عليهم، والأمر بهم إلى النار. فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة؛ بل مقام براءة منهم.
فلو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم، لأشعر باستعطافه ربه على أعدائه الذين قد اشتد غضبه عليهم. فالمقام مقام موافقة للرب في غضبه على من غضب الرب عليهم. فعدل عن ذكر الصفتين اللتين يُسأل بهما عطفُه ورحمته ومغفرته، إلى ذكر العزة والحكمة، المتضمنتين لكمال القدرة وكمال العلم.
والمعنى: إن غفرت لهم فمغفرتك تكون عن كمال القدرة والعلم، ليست عن عجز عن الانتقام منهم، ولا عن خفاء عليك بمقدار جرائمهم، وهذا لأن العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه، ولجهله بمقدار إساءته إليه. والكمال: هو مغفرة القادر العالم. وهو العزيز الحكيم. وكان ذكر هاتين الصفتين في هذا المقام عين الأدب في الخطاب "، مدارج السالكين: (2/ 358).
والله أعلم.