عنوان الفتوى : الجمع بين أحاديث النهي عن الطيرة وأحاديث التزهيد في الدنيا
كيف توفقون بين كلام النبي عليه الصلاة والسلام لا طيرة بمعنى لا تشاؤم، وبين كلام النبي الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، وأيضا كن في الدنيا كأنك غريب أو كعابر سبيل؟
الحمد لله.
وردت نصوص في التهوين من شأن الدنيا وتصغيرها في نفس المؤمن
ورد في نصوص عدة من القرآن والسنة التهوين من شأن الدنيا وتصغيرها وتقليل شأنها في نفس المؤمن، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ رواه مسلم (2956).
قال النووي رحمه الله تعالى:
"معناه: أن كل مؤمن مسجون ممنوع في الدنيا من الشهوات المحرمة والمكروهة، مكلف بفعل الطاعات الشاقة، فإذا مات استراح من هذا، وانقلب إلى ما أعد الله تعالى له من النعيم الدائم والراحة الخالصة من النقصان.
وأما الكافر فإنما له من ذلك ما حصل في الدنيا، مع قلته وتكديره بالمنغصات، فإذا مات صار إلى العذاب الدائم وشقاء الأبد." انتهى من "شرح صحيح مسلم" (18 / 93).
وحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: " أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ" رواه البخاري (6416).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
"وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنا ومسكنا، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر: يهيئ جهازه للرحيل.
وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم، قال تعالى حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال: (يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)...
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة، ولا وطنا، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين: إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة، بل هو ليلَه ونهارَه، يسير إلى بلد الإقامة، فلهذا وصّى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر أن يكون في الدّنيا على أحد هذين الحالين." انتهى من"جامع العلوم والحكم" (2 / 377 – 378).
فهذه النصوص تدعو إلى الزهد في الدنيا، والاستفادة من الأوقات في الأعمال المؤدية إلى الجنة؛ لأن الدنيا مهما احتوت من النعيم، فهو قليل في جنب نعيم الآخرة، كما في قوله تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) النساء/77.
وقوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ التوبة/38.
وعن الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ - وَأَشَارَ يَحْيَى (راوي الحديث) بِالسَّبَّابَةِ - فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟ رواه مسلم (2858).
تنفير الوحي من الركون للدنيا ليس من التشاؤم المنهي عنه
فتنفير الوحي من الركون إلى الدنيا هو موافق لحقيقة كونها فانية.
فهذا ليس من التشاؤم المنهي عنه في شيء.
لأن التشاؤم هو التطير، وهو خوف القلب من أمور لا تأثير لها وإنما هي مجرد أوهام.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
"التطير: هو التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم.
بمرئي مثل: لو رأى طيرا فتشاءم لكونه موحشا.
أو مسموع مثل: من هم بأمر فسمع أحدا يقول لآخر: يا خسران، أو يا خائب؛ فيتشاءم.
أو معلوم؛ كالتشاؤم ببعض الأيام أو بعض الشهور أو بعض السنوات؛ فهذه لا ترى ولا تسمع.
واعلم أن التطير ينافي التوحيد، ووجه منافاته له من وجهين:
الأول: أن المتطير قطع توكله على الله واعتمد على غير الله.
الثاني: أنه تعلق بأمر لا حقيقة له، بل هو وهم وتخييل؛ فأي رابطة بين هذا الأمر، وبين ما يحصل له، وهذا لا شك أنه يخل بالتوحيد؛ لأن التوحيد عبادة واستعانة، قال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وقال تعالى: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ). فالطيرة محرمة، وهي منافية للتوحيد كما سبق." انتهى من"القول المفيد" (1 / 559 – 560).
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |