عنوان الفتوى : الحكمة من الابتلاء
أنا فتاة، أريد أن أسأل بعض الأسئلة، لكي لا أسيء الظن بالله سبحانه وتعالى: لماذا الله تعالى يبتلي بعض المسلمين في الدنيا، ويترك البعض الآخر بلا بلاء ولا عقوبة؟ بالرغم من أن من الممكن أن يكون المبتلى ليست لديه تلك الذنوب الكبيرة كي ينزل عليه البلاء، ويترك أصحاب الكبائر دون بلاء ولا عقوبة: مثل الزنا، والسحر، والردة، والتهاون بالحجاب، والعلاقات المحرمة في الإنترنت.... وقد نراهم سعداء في حياتهم؟ ولماذا قد يبتلي الله ابن فلان؛ لأن فلانا قد أذنب، وعصى الله في فترة من الزمان؟ وما ذنب ابنه؟ وقد يكون ابنه صالحًا أكثر من أمه وأبيه، ولا يعصي الله، ولكنه يبتلى فقط لأن والديه يعصيان الله؟ وما ذنبه في أن يتحمّل إثم والديه؟ ولماذا الله أحيانا لا يبتلي صاحب الذنب نفسه، بل قد يبتلي ولده أو أهله أو أعز الناس لديه؟ وشكرًا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلمي أولا أن الله تعالى حكيم، فهو يضع الأشياء في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، وأنه تعالى لا يسأل عما يفعل، وذلك لكمال حكمته وعدله، وأن عقول العباد تعجز عن إدراك أسرار حكمة الله تعالى في جميع ما يقدره ويقضيه، فإذا عجز عقل المرء عن الوصول إلى الحكمة الإلهية فيما قضاه الله وقدره، فليسلم لحكم الله، وليعلم أن الله ما فعل ذلك إلا لما يتضمنه من المصلحة والحكمة والرحمة بالمكلفين، هذا ومن الإضاءات التي تنير لك طريق فهم هذه المسألة أن تعلمي أن العافية ليست دائما إكراما، وأن البلاء ليس دائما إهانة للعبد، بل قد يبتلي الله العبد، وهو محبوب لديه، وأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، وإنما يبتليهم الله ليمحصهم وينقيهم من ذنوبهم، وليزيدهم رفعة في درجاتهم، كما قد يملي لبعض الظالمين المعتدين من العصاة، ويتركهم في عافية لما يعده لهم من العقوبة والنكال، فيكون هذا استدراجا منه لهم، كما قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ {الأنعام:44}.
وقال تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كلا {الفجر:15ـ 17}.
فدلت الآية على أن الله قد يبتلي بالسراء كما يبتلي بالضراء، وعلى أنه ليس كل من أنعم الله عليه فهو مكرم، ولا كل من ضيق الله عليه فهو مهان، بل وراء ذلك من الحكم والأسرار ما لا يحيط به إلا علم الله تعالى، ثم اعلمي أيضا أن كل نعيم في الدنيا تنسيه غمسة في النار، وكل شقاء وعذاب وألم فيها تنسيه غمسة في الجنة، فالسعيد كل السعيد هو من انتقل إلى كرامة الله ومغفرته، والشقي كل الشقي هو من انتقل إلى سخط الله وغضبه؛ وإن كان الأول مبتلى في الدنيا، والثاني منعما بأعظم أنواع النعيم، كما أن الله يبتلي عباده المؤمنين في الدنيا، ويكون معهم رغم البلاء من قوة القلب وثبات النفس المستمد من الإيمان الصادق ما ينسيهم كل بلاء، ويقويهم على تحمل كل ألم، في حين يكون المنعمون في حسرة عظيمة، وعذاب دائم لقلوبهم لما اعتراهم من ذل المعصية، وإن بدا عليهم خلاف ذلك. قال الحسن رحمه الله: إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لفي رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه. اهـ
فالمطيع سعيد؛ وإن كان يعاين الفقر والضر في الدنيا، والعاصي شقي؛ وإن سكن القصور، وركب المراكب الفارهة، ولبس فاخر الثياب، ولا يشعر بهذا إلا من عرف الفرق بين الإقبال على الله عز وجل الذي هو سر كل سعادة، وبين الإعراض عنه سبحانه، ثم اعلمي كذلك أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن الله تعالى لا يعاقب الولد الصالح بفساد أبويه، ولا العكس، ولكن يكون له في البلاء بالسراء أو الضراء الحكم التي هو محمود عليها تبارك وتعالى، فهذه إشارات موجزة تفتح لك أبواب فهم أسرار هذه المسألة.
والله أعلم.