عنوان الفتوى : ما موقف أبي سفيان من بيعة أبي بكر؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

ما هو موقف أبي سفيان بن حرب من بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما؟ لأنني سمعت أنه كان ضدها، ويرى أن علي بن أبي طالب أحق منه بالخلافة، بسبب نسبه وقربه للنبي صلى الله عليه وسلم

مدة قراءة الإجابة : 9 دقائق

الحمد لله.

علم أبي سفيان بقدر أبي بكر

من الثابت أن أبا سفيان بن حرب رضي الله عنه كان يعلم قدر أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأن مكانته بين الصحابة في المرتبة الأولى، وكان أبو سفيان يقر بهذا حتى قبل أن يسلم، كما ورد في حديث البَرَاء بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عن غزوة أحد ومخاطبة أبي سفيان للمسلمين بعد المعركة، وفيه:

" فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ أَصَابُوا مِنَ المُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً، سَبْعِينَ أَسِيرًا وَسَبْعِينَ قَتِيلًا.

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِي القَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.

فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبُوهُ.

ثُمَّ قَالَ: أَفِي القَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.

ثُمَّ قَالَ: أَفِي القَوْمِ ابْنُ الخَطَّابِ؟ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.

ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلاَءِ، فَقَدْ قُتِلُوا.

فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لَأَحْيَاءٌ كُلُّهُمْ، وَقَدْ بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوؤكَ..." رواه البخاري (3039).

موقف أبي سفيان من بيعة أبي بكر

وأما ميل أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب، ورغبته في أن يتقدم على أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين في أمر الخلافة، فهذا أمر يتناقله المؤرخون، ووردت في ذلك روايات.

فروى عبد الرزاق في "المصنف" (5 / 451) قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ مُبَارَكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنِ ابْنِ أَبْجَرَ قَالَ: " لَمَّا بُويِعَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ: غَلَبَكُمْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ أَذَلُّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي قُرَيْشٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَأَمْلَأَنَّهَا خَيْلًا وَرِجَالًا.

قَالَ: فَقُلْتُ: مَا زِلْتَ عَدُوًّا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ فَمَا ضَرَّ ذَلِكَ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ شَيْئًا، إِنَّا رَأَيْنَا أَبَا بَكْرٍ لَهَا أَهْلًا".

ورجال الإسناد ثقات إلا أنّ ابْن أَبْجَرَ؛ وهو عبد الملك بن سعيد بن حيان ابن أبجر، لم يدرك زمن الحادثة؛ فالخبر منقطع الإسناد.

ورواه الطبري في "التاريخ" (3 / 209)، من طريق مالك ابن مغول، لكن تصحف فيه اسم ابن أبجر، إلى ابن الحر. 

ووقع في هذا السند اضطراب آخر، حيث رواه الحاكم في "المستدرك" (3 / 78)، قال: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَاضِي، بِمَرْوَ، حدثنا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ، حدثنا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ الْكِنْدِيِّ، عَنْ مُرَّةَ الطَّيِّبِ، قَالَ: " جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِي أَقَلِّ قُرَيْشٍ قِلَّةً، وَأَذَلِّهَا ذِلَّةً - يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ -؟ وَاللَّهِ لَئِنْ شِئْتُ لَأَمْلَأَنَّهَا عَلَيْهِ خَيْلًا وَرِجَالًا.

فَقَالَ عَلِيٌّ: لَطَالَمَا عَادَيْتَ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ يَا أَبَا سُفْيَانَ، فَلَمْ يَضُرَّهُ شَيْئًا ؛ إِنَّا وَجَدْنَا أَبَا بَكْرٍ لَهَا أَهْلًا ").

وقال الذهبي: "سنده صحيح".

وفي سنده أبو الشعثاء الكندِي، وهو: يزيد بن مهاصر، ذكره البخاري في "التاريخ" (8 / 363)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (9 / 287) لكن سكتا عنه، فلم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا.

فالإسناد مضطرب، فكما سبق عند عبد الرزاق يرويه مالك عن ابن أبجر، وهنا يرويه عن أبي الشَّعْثَاءِ الْكِنْدِيِّ، فلعل الوهم فيه من مُحَمَّدِ بْنِ سَابِقٍ، فهو متكلم في حفظه.

فقد قال الذهبي رحمه الله تعالى:

" محمد بن سابق الكوفي، عن مالك بن مغول ثقة، قال النسائي: ليس به بأس، وروي عن يحيى ابن معين: أنه ضعيف. وقال فيه يعقوب بن شيبة: ثقة، وليس ممن يوصف بالضبط. وقال أبو حاتم: لا يحتج به " انتهى من"المغني" (2 / 583).

ورواه البلاذري في "أنساب الأشراف" (2 / 271)، من طريق آخر، حيث قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عِيَاضٍ، عَنِ ابْنِ جُعْدُبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ:... فذكر الخبر.

وفيه الواقدي، وهو وإن كان من علماء السير والمغازي والتاريخ؛ إلا أن أخباره لا يحتج بها.

وفيه أيضا يزيد بن عياض، وهو متهم بالكذب.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

" يزيد بن عياض بن جعدبة، أبو الحكم المدني، نزيل البصرة، وقد ينسب لجده: كذبه مالك وغيره " انتهى من"تقريب التهذيب" (ص 604).

ورواه أيضا (2 / 271) عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ. وفي إسناده مجهول.

وروى الطبري في "التاريخ" (3 / 209)، قال: حدثني محمد بن عثمان الثقفي، قال: حدثنا أمية بن خالد، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، قال: " لما استخلف أبو بكر قال أبو سفيان: ما لنا ولأبي فَصيل، إنما هي بنو عبد مناف! قال: فقيل له: إنه قد وَلَّى ابنَك، قال: وَصَلَتْه رحمٌ!".

لكنه خبر مرسل غير متصل الإسناد، فثابت هو البناني لم يدرك الحادثة.

فالحاصل: أن هذا الخبر في أسانيده ضعف ومقال.

توضيح لموقف أبي سفيان من بيعة أبي بكر

وعلى القول بصحة هذا الخبر كما ذهب إليه الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى، وأنها مراسيل يشهد بعضها لبعض؛ فإن أبا سفيان لم يفضل عليا على أبي بكر لذاته، فهو يقر لأبي بكر بالفضل كما سبق في حديث البراء، وإنما ذهب – وهو حديث عهد بالإسلام - إلى ما كان عليه أهل مكة في الجاهلية، حيث كانوا يقدمون في الرئاسة بني عبد مناف، ولم تكن الرئاسة في قوم أبي بكر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" ولا قال أحد من الصحابة: إن في قريش من هو أحق بها من أبي بكر: لا من بني هاشم، ولا من غير بني هاشم. وهذا كله مما يعلمه العلماء العالمون بالآثار والسنن والحديث، وهو معلوم عندهم بالاضطرار.

وقد نقل عن بعض بني عبد مناف، مثل أبي سفيان وخالد بن سعيد، أنهم أرادوا أن لا تكون الخلافة إلا في بني عبد مناف، وأنهم ذكروا ذلك لعثمان وعلي فلم يلتفتا إلى من قال ذلك، لعلمهما وعلم سائر المسلمين أنه ليس في القوم مثل أبي بكر.

ففي الجملة: جميع من نُقل عنه من الأنصار وبني عبد مناف أنه طلب تولية غير أبي بكر، لم يذكر حجة دينية شرعية، ولا ذكر أن غير أبي بكر أحق وأفضل من أبي بكر، وإنما نشأ كلامه عن حب لقومه وقبيلته، وإرادة منه أن تكون الإمامة في قبيلته.

ومعلوم أن مثل هذا ليس من الأدلة الشرعية ولا الطرق الدينية، ولا هو مما أمر الله ورسوله المؤمنين باتباعه، بل هو شعبة جاهلية، ونوع عصبية للأنساب والقبائل. وهذا مما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بهجره وإبطاله " انتهى من"منهاج السنة" (1 / 519 - 520).

وقال رحمه الله تعالى:

" كما نقل عن أبي سفيان، وصاحبُ هذا الرأي لم يكن له غرض في عليّ؛ بل كان العباس عنده بحكم رأيه أولى من عليّ، وإن قُدِّر أنه رجّح عليا، فلعلمه بأن الإسلام يقدم الإيمان والتقوى على النسب، فأراد أن يجمع بين حكم الجاهلية والإسلام.

فأما الذين كانوا لا يحكمون إلا بحكم الإسلام المحض، وهو التقديم بالإيمان والتقوى، فلم يختلف منهم اثنان في أبي بكر، ولا خالف أحد من هؤلاء ولا من هؤلاء في أنه ليس في القوم أعظم إيمانا وتقوى من أبي بكر، فقدموه مختارين له مطيعين." انتهى من "منهاج السنة" (6 / 456).

والله أعلم.