عنوان الفتوى : هل صح عن أبي حنيفة قوله: (ولقاء الله تعالى لأهل الجنة حق بلا كيف ولا تشبيه ولا جهةٍ) ؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

هل كلام أبي حنيفة هذا صحيح : "ولقاء الله تعالى لأهل الجنة بلا كيف ولا تشبيه ولا جهةٍ حقٌّ"؟ وهل ينبغي أن أعتقد أنّ الله تعالى ليس في جهة؟

مدة قراءة الإجابة : 9 دقائق

الحمد لله.

أولا: دلت الأدلة على أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة بأعينهم

اتفق أهل السنة على أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة بأعينهم، كما دل عليه الكتاب والسنة.

ونفاها المعتزلة بحجة أنها تستلزم الجهة والمقابلة.

وأجاب أهل السنة : أن لازم الحق حق، وأن الله عز وجل موصوف بالعلو والفوقية، وأن الأدلة على علوه ، أكثر من الأدلة على إثبات الرؤية، وعلوه تعالى لا يستلزم تجسيما ولا تشبيها، فهو تعالى ليس كمثله شيء.

وفي أدلة الرؤية ما يفيد أن المؤمنين يرون ربهم بجهة العلو، كما في قوله صلى الله عليه وسلم :   إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ  رواه البخاري (521)، ومسلم (1002) .

قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في "شرح الطحاوية" (1/ 219): " وليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر ، تشبيها لله، بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي، ولكن فيه دليل على علو الله على خلقه. وإلا فهل تعقل رؤية بلا مقابلة؟!

ومن قال: يرى لا في جهة، فليراجع عقله!! فإما أن يكون مكابرا لعقله، أو في عقله شيء، وإلا فإذا قال: يُرى لا أمام الرائي ولا خلفه ، ولا عن يمينه ولا عن يساره ، ولا فوقه ولا تحته؛ رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة.

ولهذا ألزم المعتزلة من نفى العلو بالذات بنفي الرؤية، وقالوا: كيف تعقل رؤية بغير جهة ...

وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام، إلا لما وافقوهم على أنه لا داخل العالم ولا خارجه.

لكن قول من أثبت موجودا يرى لا في جهة، أقرب إلى العقل من قول من أثبت موجودا قائما بنفسه، لا يرى ، ولا في جهة.

ويقال لمن قال بنفي الرؤية لانتفاء لازمها وهو الجهة: أتريد بالجهة أمرا وجوديا أو أمرا عدميا؟

فإن أراد بها أمرا وجوديا ، كان التقدير: كل ما ليس في شيء موجود لا يرى، وهذه المقدمة ممنوعة، ولا دليل على إثباتها، بل هي باطلة، فإن سطح العالم يمكن أن يرى، وليس العالم في عالم آخر.

وإن أردت بالجهة أمرا عدميا، فالمقدمة الثانية ممنوعة، فلا نسلم أنه ليس في جهة بهذا الاعتبار" انتهى.

وانظر جواب السؤال رقم : (992).

ثانيا: لا تصح نسبة الكلام المذكور لأبي حنيفة رحمه الله

الكلام المنسوب إلى أبي حنيفة رحمه الله، جاء في كتاب "الوصية"، ولا تصح نسبته إلى أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه مروي من طريق أبي ظاهر محمد بن المهدي الحسيني، عن إسحاق بن منصور المسياري، عن أحمد بن علي السليماني، عن حاتم بن عقيل الجوهري، عن أبي عبد الله محمد بن سماعة التميمي، عن أبي يوسف عن الإمام أبي حنيفة.

"وهذا السند مسلسل بالمجاهيل، فإن محمد بن المهدي الحسيني، وإسحاق المسياري، وأحمد السليماني، وحاتم الجوهري : أربعتهم مجاهيل ليس لهم أي ترجمة في كتب الرجال، ولا حتى في كتب طبقات الحنفية. فسند هذا حاله لا يمكن اعتماده في نسبة هذا الكتاب الإمام رحمه الله" انتهى من "براءة الأئمة الأربعة من مسائل المتكلمين المبتدعة" للدكتور عبد العزيز الحميدي، ص76.

والكتاب مشتمل على عقيدة الأشاعرة في نفي الجهة، ونفي الكلام اللفظي، وفي أن الاستطاعة مع الفعل لا قبله ولا بعده.

ونفي الجهة مخالف لما جاء عن أبي حنيفة رحمه الله في الفقه الأبسط: " قَالَ أبو حنيفَة: من قَالَ لَا أعرف رَبِّي فِي السَّمَاء أوْ فِي الأَرْض : فقد كفر، وَكَذَا من قَالَ: إِنَّه على الْعَرْش ، وَلَا أدري الْعَرْش أَفِي السَّمَاء أوْ فِي الأَرْض، َالله تَعَالَى يدعى من أعلى لَا من أَسْفَل؛ لأن السفل لَيْسَ من وصف الربوبية والألوهية فِي شَيْء.

وَعَلِيهِ مَا روى فِي الحَدِيث أن رجلا أتى إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأمة سَوْدَاء فَقَالَ: وَجب عَليّ عتق رَقَبَة أفتجزىء هَذِه؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أمؤمنة أَنْت؟ فَقَالَت: نعم، فَقَالَ: أَيْن الله؟ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاء، فَقَالَ: اعتقها فَإِنَّهَا مُؤمنَة" انتهى من "الفقه الأبسط"، ص49 مطبوع مع "الفقه الأكبر".

ولا عبرة بتأويلات الشراح لكلامه رحمه الله، فإنه صريح في إثبات أن الله في السماء، وفي تكفير من لا يقول بذلك، وهذا موافق لما أجمع عليه الأئمة في عصره وقبله وبعده.

1-قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله : " الله في السماء ، وعلمه في كل مكان لا يخلو منه شيء " أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (532)، ورواه ابن عبد البر من طريقه، في "التمهيد" (7/138).

2- وقال الإمام الشافعي رحمه الله : " القول في السنة التي أنا عليها ، ورأيت عليها الذين رأيتهم ، مثل سفيان ومالك وغيرهما ، الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن الله على عرشه في سمائه ، يقرب من خلقه كيف شاء ، وينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء " أخرجه ابن أبي حاتم ، كما في "اجتماع الجيوش الإسلامية" ص 164، وانظر "مختصر العلو للذهبي" ص 176.

3- وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : " قيل له : الله فوق السماء السابعة ، على عرشه ، بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان ؟ قال: نعم ، هو على عرشه ، ولا يخلو شيء من علمه " أخرجه الخلال بإسناد صحيح ، كما في مختصر العلو ص 189 ، و"شرح أصول اعتقاد أهل السنة" للالكائي رقم 674 (3/445).

4- وقال الإمام الأوزاعي رحمه الله : " كنا والتابعون متوافرون نقول : إن الله عز وجل فوق عرشه ، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته " أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات" برقم 865 (2/304) ، وجود إسناده الحافظ ابن حجر في "الفتح" (13/406).

5- وقال الإمام قتيبة بن سعيد رحمه الله : " هذا قول ألائمة في الإسلام والسنة والجماعة : نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه ، كما قال جل جلاله: (الرحمن على العرش استوى)".

قال الذهبي رحمه الله: " فهذا قتيبة في إمامته وصدقه ، قد نقل الإجماع على المسألة ، وقد لقي مالكا والليث وحماد بن زيد والكبار ، وعمّر دهرا ، وازدحم الحفاظ على بابه " مختصر العلو" للذهبي ص 187

6- وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله في شرح حديث النزول :

" وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سموات ، كما قالت الجماعة ، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم : إن الله عز وجل في كل مكان وليس على العرش . والدليل على صحة ما قالوه أهل الحق في ذلك قول الله عز وجل: ( الرحمن على العرش استوى)... " التمهيد" (7/129).

والحاصل :

أنه يجب الإيمان بعلو الله تعالى على خلقه، واستوائه على عرشه، وأن المؤمنين يرونه يوم القيامة ، وفي الجنة بأعينهم، وهو فوقهم؛ لأن العلو صفة ذاتية له تعالى.

والله أعلم.