عنوان الفتوى : الجواب عن شبهة كيف يصعد الكلام إلى الله والكلام عرض؟
كنت في مناقشة أحد الأشاعرة حول علو الله تعالى، فأخبرته بقوله تعالى ( إليه يصعد الكلم الطيب )، فقال لي : إن الكلام عرض، و العرض لا يصعد ولا ينزل، فيجب تأويل قوله تعالى، فكيف نرد على هذه الشبهة ؟
الحمد لله.
أولا: علو الله على خلقه ثابت بالأدلة
علو الله تعالى على خلقه، ثابت بعشرات الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الأئمة والعقل والفطرة.
وينظر: جواب السؤال رقم: (992)، ورقم : (124469)، ورقم : (184797).
ثانيا: من أدلة العلو الإخبار بصعود وعروج الأشياء إليه سبحانه
من أدلة العلو الإخبار بصعود وعروج الأشياء إليه، ومن ذلك قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) فاطر/10.
وممن استدل بهذه الآية على إثبات العلو والفوقية لله: أبو الحسن الأشعري في "الإبانة" وفي "رسالة إلى أهل الثغر"، والبيهقي في "الاعتقاد"، وابن خزيمة في "التوحيد"، وأبو القاسم الأصفهاني في "الحجة في بيان المحجة"، وابن بطة في "الإبانة"، وعبد القادر الجيلاني في "الغنية"، والذهبي في "العرش" و في "العلو" ونقل عن جمع من الأئمة استدلالهم بهذه الآية.
قال أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر، ص130 فيما أجمع عليه السنة: "وأنه تعالى فوق سماواته على عرشه دون أرضه، وقد دل على ذلك بقوله: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ 1 وقال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ 2.
وقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى 3، وليس استواؤه على العرش استيلاء كما قال أهل القدر؛ لأنه عز وجل لم يزل مستولياً على كل شيء" انتهى.
وقال البيهقي في الاعتقاد، ص112: "بَابُ الْقَوْلِ فِي الِاسْتِوَاءِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ، وَالْعَرْشُ هُوَ السَّرِيرُ الْمَشْهُورُ فِيمَا بَيْنَ الْعُقلَاءِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود: 7] ... وَقَالَ: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل: 50] ، وَقَالَ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10] ، إِلَى سَائِرِ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَالَ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك: 16] ، وَأَرَادَ مَنْ فَوْقَ السَّمَاءِ، كَمَا قَالَ: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: 71] ، يَعْنِي عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، وَقَالَ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ [التوبة: 2] ، يَعْنِي عَلَى الْأَرْضِ، وَكُلُّ مَا عَلَا فَهُوَ سَمَاءٌ، وَالْعَرْشُ أَعْلَى السَّمَاوَاتِ، فَمَعْنَى الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ عَلَى الْعَرْشِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ" انتهى.
وقال ابن خزيمة في "التوحيد" (1/ 254): "باب ذكر البيان أن الله عز وجل في السماء كما أخبرنا في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه عليه السلام، وكما هو مفهوم في فطرة المسلمين، علمائهم وجهالهم، أحرارهم ومماليكهم، ذكرانهم وإناثهم، بالغيهم وأطفالهم، كل من دعا الله جل وعلا: فإنما يرفع رأسه إلى السماء ويمد يديه إلى الله، إلى أعلاه لا إلى أسفل... وقال عز وجل: إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه [فاطر: 10] ، أفليس العلم محيطا يا ذوي الحجا والألباب أن الرب جل وعلا فوق من يتكلم بالكلمة الطيبة، فتصعد إلى الله كلمته؟، لا كما زعمت المعطلة الجهمية أنه تهبط إلى الله الكلمة الطيبة كما تصعد إليه ألم تسمعوا يا طلاب العلم، قوله تبارك وتعالى لعيسى ابن مريم: يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي [آل عمران: 55] ، أليس إنما يرفع الشيء من أسفل إلى أعلى، لا من أعلى إلى أسفل؟" انتهى.
ولولا الإطالة لنقلنا كلام الأئمة في استدلالهم بهذه الآية.
ثالثا: الكلام يصعد إلى الله تعالى
الكلام يصعد إلى الله تعالى كما أخبر سبحانه، وقد جاء تفسير ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه يصعد به الملَك، وهذا تفسير له حكم الرفع.
روى ابن جرير في تفسيره (20/ 444)، والطبراني في "الكبير" (9/ 233)، والحاكم في "المستدرك" (3589)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (667) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: " إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك في كتاب الله: إن العبد إذا قال: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وتبارك الله، قبض عليهن ملك ، فضمهن تحت جناحه ، وصعد بهن ، لا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن ، حتى يجيء بهن وجه الرحمن، ثم تلا عبد الله إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [فاطر: 10] .
وصححه الحاكم وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
والإسناد حسن، مداره على: عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الهذلي، روى له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وتوفي سنة ستين ومائة.
قال فيه الحافظ ابن حجر في "التقريب" (3919): " صدوق اختلط قبل موته، وضابطه أن من سمع منه ببغداد فبعد الاختلاط" انتهى.
وقال في "الفتح" (1/ 418): " عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفي المسعودي ، مشهور من كبار المحدثين ، إلا أنه اختلط في آخر عمره. وقال أحمد وغيره: من سمع منه بالكوفة قبل أن يخرج إلى بغداد فسماعه صحيح" انتهى.
وممن سمع منه قبل الاختلاط: جعفر بن عون، وهو الرواي عنه عند ابن جرير والبيهقي.
وكذلك أبو نعيم، وهو الراوي عنه عند الطبراني.
قال العراقي في "التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح" ص454:
" الأمر الثالث: في بيان من سمع منه قبل اختلاطه: قال أحمد بن حنبل: سماع وكيع من المسعودي بالكوفة قديم وأبو نعيم أيضا. قال: وإنما اختلط المسعودي ببغداد. قال: ومن سمع منه بالبصرة والكوفة فسماعه جيد انتهى.
وعلى هذا فتقبل رواية كل من سمع منه بالكوفة والبصرة قبل أن يقدم بغداد، وهم أمية بن خالد، وبشر بن المفضل، وجعفر بن عون، وخالد بن الحرث، وسفيان بن حبيب، وسفيان الثورى، وأبو قتيبة سلم بن قتيبة، وطلق بن غنام، وعبد الله بن رجاء الغدانى، وعثمان بن عمر بن فارس، وعمرو بن مرزوق، وعمرو بن الهيثم، والقاسم بن معن بن عبد الرحمن، ومعاذ بن معاذ العنبرى، والنضر بن شميل، ويزيد بن زريع.
الأمر الرابع: أنه قد شدد بعضهم في أمر المسعودي ورد حديثه كله؛ لأنه لا يتميز حديثه القديم من حديثه الأخير. قال ابن حبان: في تاريخ الضعفاء كان المسعودي صدوقا، الا أنه اختلط في آخر عمره اختلاطا شديدا، حتى ذهب عقله، وكان يحدث بما يحب، فحمل عنه، فاختلط حديثه القديم بحديثه الأخير، ولم يتميز؛ فاستحق الترك.
وقال أبو الحسن القطان في كتاب بيان الوهم والإيهام: كان لا يتميز، في الأغلب، ما رواه قبل اختلاطه، مما رواه بعد انتهى.
والصحيح ما قدمناه؛ من أن من سمع منه بالكوفة والبصرة قبل أن يقدم بغداد، فسماعه صحيح كما قال أحمد وابن عمار، وقد ميز بعض ذلك. والله أعلم" انتهى.
وينظر: "الكواكب النيرات" لابن الكيال ص293
وعلى هذا فالأثر صحيح أو حسن، وهو دال على علو الله تعالى، وصعود الكلم إليه مع الملك.
وهذا الأثر له حكم الرفع؛ لأنه ليس مما يقال بالرأي والاجتهاد.
رابعاً: كون الكلام عرضاً لا يمنع صعوده
كون الكلام عرضا، لا يمنع من صعوده، كما لا يمنع ذلك من وزن الأعمال والأقوال يوم القيامة، وهي عرض، ومن مجيء سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان، ومن قيام الرحم تستعيذ بالله، ومن مجيء الموت في صورة كبش.
روى البخاري (6682)، ومسلم (2694) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ ).
قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في "شرح الطحاوية" (2/ 612) بعد ذكر أحاديث وزن الأعمال:
" فلا يلتفت إلى ملحد معاند يقول: الأعمال أعراض لا تقبل الوزن، وإنما يقبل الوزن الأجسام!! فإن الله يقلب الأعراض أجساما، كما تقدم، وكما روى الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يؤتى بالموت كبشا أغر، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال، يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، ويقال: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، ويرون أن قد جاء الفرج، فيذبح، ويقال: خلود لا موت. ورواه البخاري بمعناه.
فثبت وزن الأعمال والعامل وصحائف الأعمال، وثبت أن الميزان له كفتان. والله تعالى أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات" انتهى.
ثم ليسأل من ينكر انتقال الأعراض: ألا ينتقل الصوت، والضوء، وتقاس سرعة الأشياء اليوم بسرعة : الصوت ، والضوء ، وهي أعراض ؟!
خامسا:
إذا تذرع متذرع بأن الكلام عرض لا يصعد ليبطل الاستدلال بهذه الآية على العلو، فماذا يقول في صعود الملائكة إلى الله وهي أجسام؟!
قال تعالى: ( تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المعارج/4
وروى البخاري (555)، ومسلم (632) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ وَصَلاَةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ).
والحاصل :
أن هذه شبهة ساقطة، ولهذا شاع استدلال الأئمة بهذه الكريمة على إثبات العلو.
وننصحك بالاطلاع على ما كتب خصيصا لهذه المسألة، كالعرش والعلو، كلاهما للذهبي، واجتماع الجيوش، لابن القيم، للوقوف على الأدلة وعلى حكاية إجماع أهل السنة.
والله أعلم.