عنوان الفتوى : أنواع الإرادة وأقسامها وما يتعلق بها
من المعلوم أن الله لا يحث عباده المؤمنين أو الكافرين على فعل العمل السيئ أو المعصية، ومع ذلك يأتي القرآن ليقول: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم ـ أليس تزيين سيئ العمل يؤدي إلى التمادي فيه وعدم تركه، وكأن الله يحرضهم على ذلك العمل السيئ بتزيينه لهم؟ كما أن هناك آية أخرى تقول: ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا ـ أليس إرسال الله الشياطين عليهم ليغويهم تحريض من الله للشياطين على غواية الكافرين؟ وكيف يحرضهم الله على الغواية رغم أن الله ينهى عن الفحشاء؟ أرجو توضيح الآيتين؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد رأينا في أسئلتك السابقة أسئلة كثيرة فيها إثارة للإشكالات في مسألة القدر، كما في أسئلتك التي أجبناك عنها في الفتاوى التالية أرقامها: 314839، 272617، 319213، وغيرها.
ولتزول عنك هذه الإشكالات ينبغي لك أن تعنى بفقه أصل عظيم من أصول أبواب القدر، والذي أدى عدم فقهه إلى زلل طوائف كثيرة في أبواب القدر، وهذا الأصل هو: التمييز بين ما هو شرعي ديني من الإرادة والأمر والحكم والقضاء وغيرها، وبين ما هو كوني قدري منها، وفي بيان هذا ننقل كلاما نفيسا لابن تيمية، يقول فيه: لكن ينبغي أن يعرف أن الإرادة في كتاب الله على نوعين:
أحدهما: الإرادة الكونية: وهي الإرادة المستلزمة لوقوع المراد التي يقال فيها: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهذه الإرادة في مثل قوله: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ـ وقوله: ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ـ وقال تعالى: ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ـ وقال تعالى: ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ـ وأمثال ذلك.
وأما النوع الثاني: فهو الإرادة الدينية الشرعية وهي محبة المراد ورضاه ومحبة أهله والرضا عنهم وجزاهم بالحسنى؛ كما قال تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ـ وقوله تعالى: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم ـ وقوله: يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ـ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ـ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ـ فهذه الإرادة لا تستلزم وقوع المراد إلا أن يتعلق به النوع الأول من الإرادة.
ولهذا كانت الأقسام أربعة:
أحدها: ما تعلقت به الإرادتان، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فإن الله أراده إرادة دين وشرع، فأمر به وأحبه ورضيه، وأراده إرادة كون فوقع، ولولا ذلك لما كان.
والثاني: ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة فعصى ذلك الأمر الكفار والفجار، فتلك كلها إرادة دين، وهو يحبها ويرضاها لو وقعت، ولو لم تقع.
والثالث: ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، وهو ما قدره وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها: كالمباحات والمعاصي، فإنه لم يأمر بها ولم يرضها ولم يحبها، إذ هو لا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر، ولولا مشيئته وقدرته وخلقه لها لما كانت ولما وجدت، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
والرابع: ما لم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه، فهذا ما لم يكن من أنواع المباحات والمعاصي. اهـ باختصار يسير من مجموع الفتاوى.
فالله عز وجل لا يحب ولا يرضى الكفر والمعاصي، ولا يأمر بها أمرا دينيا شرعيا، لكنه سبحانه يخلقها ويقدرها، على بعض خلقه عقابا لهم ونكالا بهم، كما بينا لك في أجوبتنا على أسئلتك السابقة.
وأما قولك: من المعلوم أن الله لا يحث عباده المؤمنين أو الكافرين على فعل العمل السيئ أو المعصية... وكأن الله يحرضهم على ذلك العمل ـ فالحث والتحريض من الألفاظ المجملة التي لم ترد النصوص بها فيما نعلم، ومن القواعد الكلية: الكف عن التكلم في حق الله جل وعلا بما لم يرد في النصوص من الألفاظ المجملة نفيا أو إثباتا، قال ابن تيمية: ومن الأصول الكلية أن يعلم أن الألفاظ نوعان:
نوع جاء به الكتاب والسنة، فيجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك، فيثبت ما أثبته الله ورسوله، فاللفظ الذي أثبته الله أو نفاه حق.
وأما الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة ولا اتفق السلف على إثباتها ونفيها، فهذه ليس على أحدٍ أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده، فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول، أقر به، وإن أراد بها معنىً يخالف الرسول أنكره، ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال عبر بغيرها أو بين مرادها، بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي، فإن كثيراً من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعانٍ مشتبهة. اهـ باختصار من مجموع الفتاوى.
فإن أردت بنفي الحث على السيئات أو التحريض عليها أن الله جل وعلا لا يحب ذلك ولا يرضاه، ولا يأمر به أمرا شرعيا دينيا، فهذا صحيح، وأما إن أردت أن الله لا يخلق ذلك، ولا يقدره كونا، فهذا غير صحيح.
والله أعلم.