عنوان الفتوى : شبهة حول تكليف الكافر بمحبة الله مع علم الله بعدم حدوث ذلك منه
من المعلوم أننا جميعا مكلفون بحب الله تعالى، وكذلك أبو لهب كان مكلفا بحب الله تعالى، ولكن الله كلف أبا لهب بحبه عز وجل وفى نفس الوقت أخبره أنه من أهل النار، ولا يمكن لأي شخص مهما كان يعلم أنه من أهل النار أن يحب الله تعالى، بل إن العبد لو علم أنه من أهل النار يكره ربه عز وجل، فكيف يكلفه الله فوق طاقته بحبه عز وجل، والله يقول لا نكلف نفسا إلا وسعها، فأنا أرى أن الله كلف أبا لهب فوق طاقته، أرجو توضيح تلك الشبهة. ولي سؤال آخر هل من الممكن أن يكلف الله عبدا من عباده عبادة فوق طاقته أو لا يستطيع فعلها؟.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن حب الله تعالى فرض كما يجب الإيمان به، فقد فرض الله على العباد حبه أكثر من حبهم لجميع ما سواه، فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ {البقرة:165}، وقال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {التوبة:24}.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس المتفق عليه: ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما...
وقد ذم الله الكفار على مساواتهم الله مع غيره في الحب وحكم عليهم بالشرك فقد قال البغوي في تفسير قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ {البقرة:165}، أي أصناما يعبدونها يحبونهم كحب الله أي يحبون آلهتهم كحب المؤمنين الله، وقال الزجاج: يحبون الأصنام كما يحبون الله لأنهم أشركوها مع الله فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة، والذين آمنوا أشد حبا لله أي أثبت وأدوم على حبه لأنهم لا يختارون على الله ما سواه، والمشركون إذا اتخذوا صنما ثم رأوا أحسن منه طرحوا الأول واختاروا الثاني، قال قتادة: إن الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء، ويقبل على الله تعالى كما أخبر الله عز وجل عنهم فقال: فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين. والمؤمن لا يعرض عن الله في السراء والضراء والشدة والرخاء. اهـ
وأما التكليف بالمحال فهو مبحث طويل عند الأصوليين، ومسألة إيمان الكفار ومحبتهم لله ليست من المستحيل عقلا، بل هي من الجائز العقلي لأنها تقع من أمثالهم، وإنما كانت محالا لأنها تتعلق بما علم الله تعالى أنه لا يقع، وهذا النوع كلف به الكفار مع علم الله تعالى أنه لا يقع منهم، وقد جاهدهم الرسل ودعوهم إلى التوحيد وذكروهم بنعم الله تعالى مع أن الله تعالى يعلم عدم إيمانهم، فقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ {البقرة:6}، وقال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ {يوسف:103}.
وقال العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/ 522): أما وقوع التكليف بالمحال عقلا، أو عادة، فكلهم مجمعون على منعه إن كانت الاستحالة لغير علم الله تعالى بعدم وقوعه أزلا، ومثال المستحيل عقلا أن يكلف بالجمع بين الضدين كالبياض والسواد، أو النقيضين كالعدم والوجود، والمستحيل عادة كتكليف المقعد بالمشي وتكليف الإنسان بالطيران، ونحو ذلك، فمثل هذا لا يقع التكليف به إجماعا...
وأما المستحيل لأجل علم الله في الأزل بأنه لا يقع، فهو جائز عقلا ولا خلاف في التكليف به فإيمان أبي لهب مثلا كان الله عالما في الأزل بأنه لا يقع ; كما قال الله تعالى عنه: سيصلى نارا ذات لهب [11 3] ، فوقوعه محال عقلا لعلم الله في الأزل بأنه لا يوجد ; لأنه لو وجد لاستحال العلم بعدمه جهلا، وذلك مستحيل في حقه تعالى، ولكن هذا المستحيل للعلم بعدم وقوعه جائز عقلا، إذ لا يمنع العقل إيمان أبي لهب، ولو كان مستحيلا لما كلفه الله بالإيمان، على لسان نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالإمكان عام، والدعوة عامة، والتوفيق خاص...
والحاصل أن المستحيل لغير علم الله السابق بعدم وجوده; لأنه مستحيل استحالة ذاتية كالجمع بين النقيضين لا يقع التكليف به إجماعا، وكذلك المستحيل عادة، كما لا يخفى.
أما الجائز الذاتي فالتكليف به جائز، وواقع إجماعا كإيمان أبي لهب فإنه جائز عقلا، وإن استحال من جهة علم الله بعدم وقوعه...
فإذا علمت هذا، فاعلم أن علماء الأصول وجميع أهل العلم مجمعون على وقوع التكليف بالجائز العقلي الذاتي، كإيمان أبي لهب، وإن كان وقوعه مستحيلا لعلم الله بأنه لا يقع.
أما المستحيل عقلا لذاته كالجمع بين النقيضين، والمستحيل عادة كمشي المقعد، وطيران الإنسان بغير آلة، فلا خلاف بين أهل العلم في منع وقوع التكليف بكل منهما; كما قال تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [2- 282]، وقال تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم [64- 16] ، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» ... .اهـ
وراجع شروح جمع الجوامع والكوكب المنير للاطلاع على المزيد في مسألة التكليف بالمحال.
والله أعلم.