عنوان الفتوى : تعدد الروايات في سعة أبواب الجنة
أود أن أعرف بالضبط ما هو التفسير لحجم أبواب الجنة ؟ هل تتألف البوابة الواحدة من بابين على سبيل المثال؟ ماذا يعني الحديث عن المسافة بين مكة المكرمة وهجر / البصرة؟ هل يعني المسافة بين البوابة إلى البوابة أخرى؟ لماذا يوجد حديث آخر يقول إن مسافة البوابة 40 عامًا، والآخر يقول 500 سنة ؟ وإذا كانت الأحاديث كلها صحيحة، فكيف يمكن أن يكون هناك مثل هذا الفارق الكبير في الوقت والحجم؟
الحمد لله.
أولًا : الجنة لها عدة أبواب
من الثابت أن للجنة عدة أبواب.
وهذه الأبواب من سعة رحمة الله تعالى وكرمه ولطفه أن جعلها واسعة المداخل، وقد ورد في بيان سعتها أحاديث عدة.
فمن ذلك؛ حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الجَنَّةِ، كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَحِمْيَرَ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى رواه البخاري (4712)، ورواه مسلم (194) بلفظ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى .
وقد نص كثير من العلماء على أنهما بابان يغلقان على بعضهما ؛ أي: درفتان للباب.
جاء في "شرح الطيبي على مشكاة المصابيح" (11 / 3524):
" المصراعان: البابان المغلقان على منفذ واحد " انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في "مقدمة فتح الباري" (1/143) :
"قَوْله : (بَين مصراعين) المصراع الْبَاب ، وَلَا يُقَال : مصراع إِلَّا إِذا كَانَ ذَا درفين" انتهى .
وفي "كشف المشكل" (1/1147) :
"والمصراع أحد البابين" انتهى .
والقاضي عياض في "مشارق الأنوار" (1/78) :
"والمصراع الباب ، ولا يقال له مصراع حتى يكونا اثنين" انتهى .
وقال القاري في "مرقاة المفاتيح" (8/3546) :
"(الْمِصْرَاعَيْنِ) أَيِ: الْبَابَيْنِ الْمَضْرُوبَيْنِ عَلَى مَدْخَلٍ وَاحِدٍ" انتهى .
ثانيا : توجيه اختلاف الروايات في اختلاف المسافة بين جانبي الباب
أما اختلاف المسافة بين جانبي الباب ، فقد ورد في الحديث السابق ثلاث مسافات .
وهي متقاربة في بعدها عن مكة .
قال ابن هبيرة رحمه الله تعالى:
" وتلك المواضع كلها متقاربة في البعد، فهذا مما يدل على عظم سعة ما بين المصراعين من مصاريع الجنة " انتهى من "الإفصاح" (6 / 440).
وهذه الأماكن كان بعدها متصورا لكثير من الصحابة في ذلك الزمن، فغاية أسفارهم في التجارة - وخاصة أهل مكة - إلى الجنوب إلى بلاد حمير وهي اليمن، وبصرى كانت مقصدا لتجارتهم في جهة الشام، وهجر تجارتهم إلى البحرين في المشرق.
وورد أن عرض الباب مسيرة ثلاثة أيام للراكب المجدّ.
روى الترمذي (2548) عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَابُ أُمَّتِي الَّذِي يَدْخُلُونَ مِنْهُ الجَنَّةَ عَرْضُهُ مَسِيرَةُ الرَّاكِبِ المُجَوِّدِ ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَيُضْغَطُونَ عَلَيْهِ حَتَّى تَكَادَ مَنَاكِبُهُمْ تَزُولُ ثم قال الترمذي: " هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. سَأَلْتُ مُحَمَّدًا، عَنْ هَذَا الحَدِيثِ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ، وقَالَ: لِخَالِدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ مَنَاكِيرُ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ " انتهى. وضعفه الشيخ الألباني في "ضعيف سنن الترمذي".
ورغم ضعفه فلا يكاد يخالف حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق؛ فإن الفارس على الفرس السريع؛ إذا تصورناه مسرعا لا يتوقف ليلا ولا نهارا؛ فالمسافة التي يقطعها في ثلاثة أيام تقارب المسافات الواردة في حديث أبي هريرة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وهذا مطابق للحديث المتفق عليه: ( إن ما بين المصراعين كما بين مكة وبصرى )؛ فإن الراكب المجود غاية الإجادة ، على أسرع هجين ، لا يفتر ليلا ولا نهارا، يقطع هذه المسافة في هذا القدر ، أو قريب منه " انتهى من "حادي الأرواح" (ص 118).
وقال المناوي رحمه الله تعالى:
" ولا ينافيه خبر: ( إن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر )؛ لأن الراكب المجود غاية الإجادة ، على أسرع مجرى ، ليلا ونهارا : يقطع المسافة بينهما " انتهى من "فيض القدير" (3 / 192).
وورد أن سعة الباب مسيرة أربعين سنة.
عَنْ خَالِدِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَدَوِيِّ، قَالَ: خَطَبَنَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ: " ... وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ " رواه مسلم (2967).
وورد مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فرواه الإمام أحمد في "المسند" (17 / 339) وغيره من حديث دَرَّاج، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ فِي الْجَنَّةِ كَمَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً .
ودرّاج هو: " ابن سمعان أبو السَّمح المصري القاص، صدوق في حديثه عن أبي الهيثم ضعف " انتهى من "تقريب التهذيب" (ص 201).
وقد ورد شاهد له عند الطبراني في "المعجم الكبير" (14 / 338 - 339)؛ من حديث زُرَيْك بن أبي زُرَيْكٍ، عن معاويةَ بن قرةَ، عن عبد الله بن سلامٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيِ الجَنَّةِ مِقْدَارُ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهِ يَوْمًا يُزَاحَمُ عَلَيْهِ كَازْدِحَامِ الإِبِلِ وَرَدَتْ لِخَمْسٍ ظِمَاءً .
وقال الشيخ الألباني: " والإسناد صحيح لأن كل رجاله ثقات " انتهى ن "السلسلة الصحيحة" (4 / 275).وله شاهد من حديث حَمَّاد بن سلمة؛ قَالَ: وَسَمِعْتُ الْجُرَيْرِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ معاوية بن حيْدة، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ آخِرُهَا، وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ.
وَمَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهِ يَوْمٌ وَإِنَّهُ لَكَظِيظٌ
.
رواه الإمام أحمد في "المسند" (33 / 228) وغيره، وحسّن إسناده محققو المسند، وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (4 / 274).
لكن رواه خالد بن عبد الله الواسطي عن الجريري، فخالف حمّادا؛ حيث رواه بلفظ: مَسِيرَةُ سَبْعِ سِنِينَ كما في صحيح ابن حبان (16 / 401)، و"البعث" لابن أبي داود (61)؛ عن خَالِد، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ سَبْعِ سِنِينَ .
لكن الجريري وهو: سعيد ابن إياس، كان قد اختلط وتغير حفظه في آخر عمره.
وحمّاد بن سلمة ممن سمع منه قبل اختلاطه، وأمّا خالد بن عبد الله فلم يتبيّن وقت سماعه من الجريري، هل بعد اختلاطه أم قبل؟
" قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله – أحمد بن حنبل-: ...
فإنهم يقولون: سماع خالد – من الجريري - بعد الاختلاط. قال: لا أدري " انتهى من " المنتخب من علل الخلال" (ص 166).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" ولم يتحرر لي أمره إلى الآن؛ هل سمع منه قبل الاختلاط أو بعده " انتهى. "هدي الساري" (ص 405).
وتابع خالدا : عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، قال: أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ، حَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: بَيْنَ كُلِّ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ سَبْعِ سِنِينَ رواه البيهقي في " البعث والنشور" (ص 169).
لكن علي بن عاصم - وهو مقارب لخالد الواسطي في السن - لا يعرف أيضا هل سمع من سعيد بعد اختلاطه أم قبله؟ كما أنه عرف بالوهم في حديثه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" علي بن عاصم بن صهيب الواسطي، التيمي مولاهم، صدوق يخطىء ويصرّ " انتهى من
"تقريب التهذيب" (ص 403).
فالحاصل:
أن الترجيح يقتضي تقديم رواية حماد بن سلمة بلفظ "أربعين عاما"؛ فهو ممن سمع من الجريري قبل اختلاطه، وتتأيد روايته بحديث عتبة بن غزوان عند الإمام مسلم كما سبق.
لكن لعل هذه المسافة - أربعين عاما - خاصة بباب عظيم، دون سائر الأبواب.
قال ابن القيم عن حديث عتبة بن غزوان:
" فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذاكر لهم ذلك، كان هذا سعة ما بين باب من أبوابها، ولعله الباب الأعظم " انتهى من "حادي الأرواح" (ص 115).
وقال الصنعاني رحمه الله تعالى:
" واعلم! أنه قد ورد: ( أن ما بين المصراعين من مصارع الجنة كما بين مكة وهجر )، وعند أحمد: ( ما بين المصراعين مسيرة أربعين عامًا )...
ولعله يقال: إن أبواب الجنة الثمانية ، هي التي لها السعة ، وهي مختلفة ؛ منها ما هو في غاية السعة ، كما في حديث أحمد، ومنها ما هو دونه كما في الحديث الأول " انتهى من "التنوير شرح الجامع الصغير" (4 / 522 - 523).
وأما كون سعة الباب مسيرة خمسمائة سنة، فلم نقف على رواية بهذا التحديد.
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |