عنوان الفتوى : الجواب عن شبهة أن جُرْم أهل النار له قدر فلماذا عوقبوا بعقاب دائم ليس له قدر؟
كلام شيخ الإسلام، وابن القيم -رحمهما الله- في فناء عذاب أهل النار -مع كل ما رد عليه العلماء- يبدو عين الصواب؛ فالله سبحانه يقول: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ. وأهل السنة والجماعة متفقون على أن أفعال المخلوقين مخلوقة، فيثبت بذلك أن جرم أهل النار من الكفار له قدر، وليس من العدل -والله أعلم بالصواب- عقاب جرم له قدر بعقاب ليس له قدر، فَلَو عوقبوا -ولو بسجن أبدي- من غير نار صار ذلك عقابًا ليس له حدود، ومصيرهم بعد النار ليس من شأننا؛ لذلك يبدو لي كلام شيخَي الإسلام في غاية العقل، والصحة. أفتوني -وفقكم الله-.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49] ليس فيه ما يدل على فناء المخلوقات، وإلا لكان نعيم الجنة فانيًا هو الآخر.
بل إن المراد بالآية إثبات قضاء الله تعالى، وقدره في خلقه، لا كون المخلوقات لها مقدار؛ قال الزجاج في (معاني القرآن): أي: كل ما خلقنا فمقدور مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه. اهـ.
وقال ابن كثير: ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل برئها. اهـ.
وأما شبهة انتفاء العدل بخلود أهل النار: فقال الشيخ العلامة/ الشنقيطي في مجالسه في التفسير: جواب هذه الشبهة الباردة الملحدة: أن الخبث، والكفر الذي انطوت عليه قلوبهم، وتمرَّدُوا بِسَبَبِه على الله منطوية عليه قلوبهم أبدًا، لا يزول منها أبدًا، فكان العذاب أَبَدِيًّا سرمديًّا؛ لأن سبب ارتكابه كان في القلب أبدي سرمدي، والآيات الدالة على هذا كثيرة؛ كَقَوْلِهِ تَعَالى عنهم أنهم لما عاينوا النار ورأوا عذاب الله، وعظمة النار، وهول ذلك الموقف، وتمنَّوا الرجوع إلى دار الدنيا مرة أخرى ليطيعوا الرسل، ويعودوا إلى رضا الله، وتمنوا ذلك فقالوا: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27] بيّن الله أن ذلك الخبث الذي كان في قلوبهم في دار الدنيا لم يَزُل أبدًا حتى بعد الموت، ومعاينة النار، ومعاينة العذاب، قال وهو أصدق من يقول: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]، فهو يبين أنهم كلما ردوا إلى الدنيا رجعوا إلى الكفر، وأن أصل ذلك الكفر كامن في قلوبهم لا يزول. ومما يوضحه قوله في الأنفال: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاَّسْمَعَهُمْ} (خيرًا) نكرة في سياق الشرط، فهي تعم. معناه: أنّ الله لا يعلم في قلوبهم خيرًا أبدًا في وقتٍ من الأوقات كائنًا ما كان، ولا زمن من الأزمان. ثم قال على الفرض: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]، فتبين أن ذلك الشر الذي عصوا به الرسل، وتمردوا به على الله دائم لا يزول، فكان جزاؤه دائمًا لا يزول، فتطابق الجزاء والعمل؛ ولذا قال تعالى: {جَزَآءً وِفَاقًا} [النبأ: 26] أي: جزاءً موافقًا لأعمالهم، وهذا معنى قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 36]. اهـ. وراجع في ذلك الفتوى رقم: 141026.
وقد سبق لنا ذكر أدلة أهل السنة في إثبات خلود أهل النار، وذلك في الفتوى رقم: 4228. كما سبق لنا إيراد ما يوافق ذلك من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى رقم: 7485.
وراجع في ما يخص صحة نسبة القول بفناء النار لابن تيمية، وابن القيم، الفتوى رقم: 64739.
وأخيرًا ننبه الأخ السائل على أن القول بفناء النار قول مبتدع، لا يسوغ القول به، ولا اعتقاده، ولا تصح نسبته لأهل السنة، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 197123.
والله أعلم.