عنوان الفتوى : حكم التأسي بأفعال النبي المطلقة
أرجو عدم إحالتي إلى فتاوى سابقة؛ لأني قرأتها ولم أفهم. أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم خمسة أقسام. وسؤالي في قسمين منها الثالث والرابع: (أفعاله صلى الله عليه وسلم المطلقة، والأخرى التي جاءت تفصيلا لمجمل، أو تقييدا لمطلق) أفعاله المطلقة صلى الله عليه وسلم. هل يدخل ضمنها أي فعل فيه تعبد، لكنه ليس تفصيلا لمجمل، أو تخصيصا لعام، أو تقييدا لمطلق، كفعله صلى الله عليه وسلم الذي يراه صحابي، ويرويه عنه، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر به. أرجو تقوية أي كلام بأدلته، وبكلام العلماء فيه ما أمكن ذلك. وجزاكم الله خيرا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن قسمة أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها في الفتوى رقم: 24214. ذكرنا فيها نصا: ( أفعاله المطلقة التي لا يظهر فيها قصد القربة ولا عدمها، وقد اختلف العلماء في حكم التأسي به فيها). فالأفعال التي ظهر فيها قصد القربة، والتعبد، غير داخلة في هذا القسم.
ويظهر أنك لم تتبين أقسام أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من تلك الفتوى؛ لأنك بعثت عدة أسئلة حول تلك الفتوى.
فنسوق لك نص ما جاء في كتاب التحبير، شرح التحرير للمرداوي -الحنبلي-، حول أقسام أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وحكمها، ولعلك -إن شاء الله- إن تأملته؛ تتضح لك المسألة بصورة جيدة، وتستغني عن كثرة السؤال بعدها.
جاء في التحبير شرح التحرير للمرداوي: {ما كان من أفعاله صلى الله عليه وسلم مختصا به فواضح}. وله صلى الله عليه وسلم خصائص كثيرة، وذكرها أصحابنا، وغيرهم في كتاب النكاح، وأفردت بالتصانيف.
قال الإمام أحمد -رضي الله عنه-: (خص النبي صلى الله عليه وسلم بواجبات، ومحظورات، ومباحات، وكرامات).
قوله: {أو جبليا}. أعني: ما كان من أفعاله جبليا واضحا: كالقيام والقعود، والذهاب والرجوع، والأكل والشرب، والنوم والاستيقاظ، ونحوها، {فمباح، قطع به الأكثر} ولم يحكوا فيه خلافا؛ لأنه ليس مقصودا به التشريع، ولا تعبدنا به، ولذلك نسب إلى الجبلة، وهي: الخلقة؛ لكن لو تأسى به متأس، فلا بأس، كما فعل ابن عمر، فإنه كان إذا حج يجر بخطام ناقته حتى [يبركها] حيث بركت ناقته صلى الله عليه وسلم، تبركا بآثاره. وإن تركه لا رغبة عنه، ولا استكبارا، فلا بأس.
ونقل ابن الباقلاني، والغزالي في "المنخول" قولا: إنه يندب التأسي به. نقل [أبو] إسحاق الإسفراييني، وجهين، هذا، وعزاه لأكثر المحدثين، والثاني: لا يتبع فيه أصلا. فتصير الأقوال ثلاثة: مباح، ومندوب، وممتنع. ويحكى قول رابع: بالوجوب في الجبلي وغيره. قيل: وهو زلل. وحكى ابن قاضي الجبل: الندب عن بعض الحنابلة، والمالكية. وحكاه القرافي في "التنقيح"، وقطع به الزركشي شارح "جمع الجوامع" فقال: (أما الجبلي: فالندب، لاستحباب التأسي به).
قوله: { [فإن] احتمل الجبلي وغيره}، من حيث إنه واظب عليه: {كجلسة الاستراحة، وركوبه في الحج، ودخوله مكة من كداء، ولبسه السبتي، والخاتم، وذهابه ورجوعه في العيد، ونحوه}: كتطيبه عند الإحرام، وعند تحلله، وغسله بذي طوى، والاضطجاع بعد سنة الفجر، ونحوها، {فمباح [عند] الأكثر ، حكاه إلكيا الهراسي؛ لإجماع الصحابة عليه، وقطع به ابن القطان، والماوردي، والروياني، وغيرهم. {وقيل: مندوب، وهو أظهر} وأصح،{وهو ظاهر فعل} الإمام أحمد، فإنه تسرى، واختفى [ثلاثة أيام] }، ثم انتقل إلى موضع آخر، اقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في التسري، واختفائه في الغار ثلاثا {وقال: "ما بلغني حديث إلا عملت به، حتى أعطي الحجام دينارا". وورد} أيضا {عن} الإمام {الشافعي} ذلك، فإنه جاء عنه أنه قال لبعض أصحابه: "اسقني قائما، فإنه صلى الله عليه وسلم شرب قائما".
ومنشأ الخلاف في ذلك: تعارض الأصل، والظاهر، فإن الأصل عدم التشريع، والظاهر في أفعاله التشريع؛ لأنه مبعوث لبيان الشرعيات.
قلت: أكثر ما حكيناه من الأمثلة مندوب، نص عليه إمامنا وأصحابه: كذهابه من طريق، ورجوعه في أخرى في العيد، حتى نص عليه الإمام أحمد في الجمعة أيضا، ودخوله مكة من كداء، وتطيبه عند الإحرام، وغسله بذي طوى، والاضطجاع بعد سنة الفجر.
قوله: {وما كان بيانا [بقوله صلى الله عليه وسلم، كقوله صلى الله عليه وسلم: " صلوا] كما رأيتموني أصلي"، [وفعله] عند الحاجة كقطع [السارق] من [الكوع] }، وإدخال المرافق والكعبين [في الغسل]، { [فبيان] } لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38] ، ولقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} [المائدة: 6] ، وهذا متفق عليه عند العلماء.
قوله: { [وما لم يكن كذلك]} . يعني: لا مختصا به، ولا جبليا، ولا مترددا، ولا بيانا، فهو { قسمان :} أحدهما: { ما علمت صفته من وجوب، أو ندب، أو إباحة، فقال أصحابنا وأكثر العلماء } من الفقهاء، والمتكلمين: كالحنفية، والمالكية، والشافعية، وغيرهم: {أمته مثله} في ذلك؛ لأن الأصل مشاركة أمته له، حتى يدل دليل على غير ذلك. {و} قال {القاضي} -من أصحابنا- وبعض الشافعية {و} أبو علي { ابن خلاد } من المعتزلة: أمته مثله {في العبادات فقط } دون المعاملات، والمناكحات وغيرهما. { ووقف بعض أصحابنا } والفخر الرازي، فإن الإمام أحمد قال في رواية ابن إبراهيم: (الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم سوى الفعل؛ لأنه يفعل الشيء لجهة الفضل، ويفعله وهو خاص به، وإذا أمر بالشيء فهو للمسلمين). قال بعض أصحابنا: (ظاهره الوقف في تعديته إلى أمته، وإن علمت صفته؛ لتعليله باحتمال تخصيصه). وذكر بعض أصحابنا أنه أقيس، وقاله بعض الأصوليين. {و} قال القاضي أبو بكر {الباقلاني: حكمه حكم ما لم تعلم صفته} على ما يأتي بعد هذا، فيجري فيه قول بالندب، وقول بالإباحة، وقول بالوقف.
{و} قال {الشيخ} تقي الدين: ( { من الممكن أنه يجب علينا وإن لم يجب عليه }؛ كما تجب متابعة الإمام فيما لا يجب عليه، ونبه عليه القرآن بقوله: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله} الآية [التوبة: 120]، فأوجب عليهم، ولو لم يتعين ذلك الغزو. -قال-: وقد يقال هذا فيما صدر منه اتفاقا) .
قوله: {وما لا تعلم صفته}. هذا هو القسم الثاني: [مما لم] يكن جبليا، ولا مختصا به، ولا مترددا، ولا بيانا،{ وهو نوعان }: أحدهما: { ما يقصد به القربة، فهو واجب علينا وعليه، عند أحمد، وأكثر أصحابه}، منهم: ابن حامد، والقاضي، وابن أبي موسى، وابن عقيل في" الواضح"، وذكره عن أصحابنا، والحلواني، قاله الشيخ تقي الدين، { والمالكية }، وابن سريج، والإصطخري، وابن خيران، وابن أبي هريرة، وبعض الحنفية، وهو الصحيح عن مالك، واختاره ابن السمعاني، وقال: (هو أشبه بمذهب الشافعي)، واختاره الرازي في "المعالم". { وعن الإمام أحمد رواية: أنه مندوب، واختاره التميمي، والقاضي} أيضا في مقدمة "المجرد"، وحكاه السرخسي عن الحنفية، والفخر إسماعيل من أصحابنا، والظاهرية، والمعتزلة، والصيرفي، والقفال الكبير، وأبو المعالي، وأبو شامة، وحكي عن الشافعي، واختاره ابن الحاجب.
قال المجد ابن تيمية: (نقل هذه الرواية عن أحمد: إسحاق بن إبراهيم، والأثرم، وجماعة، بألفاظ صريحة) . {وقيل} : إنه {مباح، اختاره الفخر} إسماعيل {في جدله، والجصاص، والفخر الرازي } وأبو المعالي في "البرهان"، {وحكاه الآمدي مذهب مالك }، واستشكل الإباحة فيما يقصد به القربة.
{وعن} الإمام {أحمد} رواية -أيضا- { بالوقف } حتى يقوم دليل على حكمه { اختارها أبو الخطاب، وحكي عن التميمي}، وأكثر المتكلمين، {والأشعرية، وغيرهم } وصححه القاضي أبو الطيب، وحكي عن جمهور المحققين: كالصيرفي، والغزالي، وأتباعهما، وقاله الكرخي الحنفي. فقيل: الوقف بين الوجوب، والندب، والإباحة. وقيل: بين الوجوب، والندب فقط.
قوله: { وما لم يقصد به القربة }. هذا هو النوع الثاني مما لم تعلم صفته، وهو ما لم يقصد به القربة، وفيه أقوال:
أحدها: أنه { مباح }، اختاره الأكثر، منهم أصحابنا، وحكي عن مالك، واختاره ابن الحاجب. قال المجد في "المسودة": (فعل النبي صلى الله عليه وسلم يفيد الإباحة، إذا لم يكن فيه معنى القربة، في قول الجمهور) .
{ والقول الثاني: أنه واجب}، اختاره جماعة، وحكي عن ابن سريج، والإصطخري، وابن خيران، وابن السمعاني، وغيرهم، كما تقدم.
قال ابن مفلح وغيره: (ولا وجه له) على ما يأتي.
{ والقول الثالث: أنه مندوب}، اختاره جماعة -أيضا- وحكي عن الشافعي كما تقدم، فإن كثيرا من العلماء حكى الخلاف فيما لم تعلم صفته، وأطلقوا الخلاف، سواء قصد به القربة أو لا، وجعلوا بعض الأقوال مفصلة بين ما يقصد به القربة، وبين ما لم يقصد به القربة. اهـ. باختصار.
والله أعلم.