عنوان الفتوى : كيف نوفق بين إصابة النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والسحر مع حديث ( من تصبح بسبع تمرات ...)؟
هناك أحد النصارى قام بإلقاء شبهة، مضمونها: إن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم تم سحره لمدة ستة أشهر، وتم سمه، وأثر السم فيه لمدة أربع سنوات تدريجيا حتى مات، مستشهدا بأحاديث البخارى ومسلم، ثم قال: لماذا لم يأكل نبيكم 7 تمرات، وخلص نفسه من السم أو السحر، بدلا من المعاناة التى لقاها فى سحره، ولقاها فى مرض موته متأثرا بالسم، واستشهد بحديث: (من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر)؟ أرجو رد الشبهة فى مجالها فقط، وهو حديث السبع تمرات، وسحر الرسول وسمه فقط لا غير.
الحمد لله.
أولا:
الحديث الذي أشار إليه السائل حديث صحيح متفق عليه .
أخرجه البخاري في "صحيحه" (5768)، ومسلم في "صحيحه" (2047) ، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، قال : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اصْطَبَحَ كُلَّ يَوْمٍ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً ، لَمْ يَضُرَّهُ سُمٌّ ، وَلَا سِحْرٌ ذَلِكَ اليَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ .
وفي لفظ عند مسلم: مَنْ أَكَلَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِمَّا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حِينَ يُصْبِحُ، لَمْ يَضُرَّهُ سُمٌّ حَتَّى يُمْسِيَ .
وأخرج مسلم في "صحيحه" (2048) ، من حديث عَائِشَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ فِي عَجْوَةِ الْعَالِيَةِ شِفَاءً - أَوْ إِنَّهَا تِرْيَاقٌ - أَوَّلَ الْبُكْرَةِ .
وهذا الحديث جاء فيه وقوع الجزاء على تحقيق الشرط، ووقع الشرط مقيدا بتمر خاص، من حيث النوع، والمكان، والعدد، وزمان الأكل؛ وليس التمر؛ أيا ما كان.
فاشترط كونه تمرا ، من العجوة ، ومن تمر العالية ، وأن يكون سبعا ، وأن يصطبح به أي يأكله إذا أصبح أول ما يأكل ، ثم أن يكون ذلك كل يوم .
ووقع جزاء الشرط مقيدا إلى الليل ، أي يمتنع إصابته بسم أو سحر إلى الليل .
قال العيني في "عمدة القاري" (21/287) :" التَّقْيِيد بقوله: ( ذَلِك الْيَوْم إِلَى اللَّيْل ) : مَفْهُومه أَن الْفَائِدَة الْمَذْكُورَة فِيهِ ترْتَفع إِذا دخل اللَّيْل فِي حق من تنَاوله فِي أول النَّهَار ، لِأَن فِي ذَلِك الْوَقْت كَانَ تنَاوله على الرِّيق ". انتهى
وقال ابن حجر في "فتح الباري" (10/239) :" وَظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ أَيْضًا : الْمُوَاظَبَةُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ وَقَعَ مُقَيَّدًا فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِسَبْعِ تَمَرَاتِ عَجْوَة فِي سبع غدوات ". انتهى.
فمتى ما تحقق الشرط بهذا الوصف وقع الجزاء ، تصديقا لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا تخلف الشرط: تخلف المشروط، ولم يكن داخلا تحت الوعد بالحفظ من تلك الآفات، وقد يحفظ الله عبده بغيرها من أقداره وتدبيره، وبما شاء، سبحانه.
ثانيا:
وأما إصابة النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر: فأمر ثابت لا مطعن فيه .
والحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" (3268) ، من حديث عَائِشةَ قَالَتْ:" سُحِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ".
وأما إصابته بالسم :
فقد روى البخاري في "صحيحه" (2617) ، ومسلم في "صحيحه" (2190) ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :" أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ ، فَأَكَلَ مِنْهَا ، فَجِيءَ بِهَا فَقِيلَ: أَلاَ نَقْتُلُهَا، قَالَ: لاَ، فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وقد أكل معه من الشاة المسمومة البراء بن معرور ومات منها، أما النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله حفظه ، وأخبرته الشاة أنها مسمومة ، وعاش بعدها ثلاث سنين ، إلا أنه وجد ألمها عند موته صلى الله عليه وسلم .
قَالَ عُرْوَةُ: كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ: يَا عَائِشَةُ، إِنِّي أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُهُ بِخَيْبَرَ ، فَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ .
أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4393) ، وصححه الشيخ الألباني في "مشكاة المصابيح" (5965) .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم حق ، لا باطل فيه ، فيجب التسليم له .
قال ابن القيم في "زاد المعاد" (4/92) :" وَنَفَعَ هَذَا الْعَدَدُ مِنْ هَذَا التَّمْرِ، مِنْ هَذَا الْبَلَدِ، مِنْ هَذِهِ الْبُقْعَةِ بِعَيْنِهَا، مِنَ السَّمِّ وَالسِّحْرِ، بِحَيْثُ تَمْنَعُ إِصَابَتُهُ مِنَ الْخَوَاصِّ الَّتِي لَوْ قَالَهَا بقراط وجالينوس وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَطِبَّاءِ ، لَتَلَقَّاهَا عَنْهُمُ الْأَطِبَّاءُ بِالْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ وَالِانْقِيَادِ ، مَعَ أَنَّ الْقَائِلَ إِنَّمَا مَعَهُ الْحَدْسُ وَالتَّخْمِينُ وَالظَّنُّ ، فَمَنْ كَلَامُهُ كُلُّهُ يَقِينٌ وَقَطْعٌ وَبُرْهَانٌ ، وَوَحْيٌ أَوْلَى أَنْ تُتَلَقَّى أَقْوَالُهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ ، وَتَرْكِ الِاعْتِرَاضِ ". انتهى
ثالثا:
وأما قول من قال: كيف يؤثر السحر والسم في النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من قال :مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ ، وَلَا سِحْرٌ .
فجواب ذلك من عدة أمور:
أولا : أما السم ، فلم يضر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم ، بل حفظه الله وصانه ، حتى إذا كان أوانُ أجله ، صلى الله عليه وسلم ، وجد تلك الأكلة ، وعملت فيه ، لما سبق من كرامة الله له بالشهادة ، فحصل الخير من كل وجه ، وعلى أتم حال.
ثانيا : أنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصطبح كل يوم بسبع تمرات من العجوة ، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثير الصيام.
فقد روى البخاري في "صحيحه" (1969) ، ومسلم في "صحيحه" (1156) ، من حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يُفْطِرُ ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يَصُومُ".
بل ربما دخل النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه فيسألهم : (هل عندكم من شيء؟) فإذا لم يجد شيئا صام".
فقد روى مسلم في "صحيحه" (1154) ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاتَ يَوْمٍ : يَا عَائِشَةُ، هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ .
ثالثا: أن الحديث وقع فيه تقييد الوقاية من السم أو السحر بالنهار دون الليل.
قال ابن حجر في "فتح الباري" (10/239): " وَأَمَّا الْغَايَةُ فِي قَوْلِهِ : (إِلَى اللَّيْلِ) فَمَفْهُومُهُ أَنَّ السِّرَّ الَّذِي فِي الْعَجْوَةِ مِنْ دَفْعِ ضَرَرِ السِّحْرِ وَالسُّمِّ، يَرْتَفِعُ إِذَا دَخَلَ اللَّيْلُ فِي حَقِّ مَنْ تَنَاوَلَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ ". انتهى.
فعلى ذلك يقال: ربما حدثت واقعة السم والسحر ليلا لا نهارا.
وقد روى ابن سعد في "الطبقات" (2/201) من حديث أبي هريرة وجابر بن عبد الله وابن عباس في واقعة السم هذه وفيها :" فَلَمَّا غَابَتِ الشَّمْسُ، وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم الْمَغْرِبَ بِالنَّاسِ، انْصَرَفَ وَهِيَ جَالِسَةٌ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَسَأَلَ عَنْهَا فَقَالَتْ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، هَدِيَّةٌ أَهْدَيْتُهَا لَكَ، فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلم، فَأُخِذَتْ مِنْهَا، فَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَصْحَابُهُ حُضُورٌ، أَوْ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ، وَفِيهِمْ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم: ادْنُوا فَتَعَشَّوْا .
رابعا : الله تعالى بيده وحده النفع والضر، فإذا شاء وقوع أمر هيأ أسبابه.
روى أبان بن عثمان عن أبيه عثمان بن عفان أنه قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ: بِسْمِ اللهِ الَّذِي لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ ، وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فَيَضُرَّهُ شَيْءٌ .
وَكَانَ أَبَانُ قَدْ أَصَابَهُ طَرَفُ فَالِجٍ ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَبَانُ: مَا تَنْظُرُ؟ أَمَا إِنَّ الحَدِيثَ كَمَا حَدَّثْتُكَ، وَلَكِنِّي لَمْ أَقُلْهُ يَوْمَئِذٍ، لِيُمْضِيَ اللَّهُ عَلَيَّ قَدَرَهُ.
أخرجه الترمذي في "سننه" (3388) ، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح الترمذي" (2698) .
هذا ونوصي أنفسنا وإخواننا ألا يلقوا آذانهم لهؤلاء المشككين ، فإن شبههم كلها داحضة باطلة ، ولكن الفتن خطافة ، والقلوب ضعيفة ، ومن استشرف للفتنة وقع فيها ، حفظنا الله وإياكم من شر الفتن ، آمين .
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |