عنوان الفتوى : يتبع المذهب المالكي في القول بعدم نجاسة لعاب الكلب، فهل يجوز له الصلاة بثياب وقع عليها لعاب الكلب؟
أريد منكم استفسار على لعاب الكلب: هنا في إيطاليا الكلاب في كل مكان ، ولقد اطمئن قلبي برأي الإمام مالك بن أنس رحمه الله، و لكن إن مسنى الكلب بلعابه على ثوبي، هل يجوز لي الصلاة؟ يمكن أن يكون على الثوب من لعابه ورطوبة ولكن لا يرى نجاسة. و جزاكم الله خيرا
الحمد لله.
أولا:
ذهب جمهور أهل العلم إلى نجاسة لعاب الكلب ، ووجوب تطهير ما مسه هذا اللعاب .
قال ابن قدامة الحنبلي رحمه الله تعالى :
" فالنجس نوعان: أحدهما: ما هو نجس، رواية واحدة، وهو الكلب، والخنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما، فهذا نجس، عينه، وسؤره، وجميع ما خرج منه، روي ذلك عن عروة، وهو مذهب الشافعي، وأبي عبيد، وهو قول أبي حنيفة في السؤر خاصة " انتهى من "المغني" (1 / 64).
واستدل الجمهور على ذلك ، بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِذَا شَرِبَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا ) رواه البخاري (172) ورواه مسلم (279) بلفظ : ( إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ، ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مِرَارٍ )، وفي لفظ له أيضا: ( طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ، أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ ).
ودلالة الحديث دل على نجاسة لعاب الكلب من وجوه :
الوجه الأول : أنه جاء في أوله: ( طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ ) ؛ والطهارة حقيقتها في الشرع : هي الطهارة من الحدث أو الخبث.
قال النووي رحمه الله تعالى:
" ففيه دلالة ظاهرة لمذهب الشافعي وغيره رضي الله عنه ممن يقول بنجاسة الكلب لأن الطهارة تكون عن حدث أو نجس وليس هنا حدث فتعين النجس .
فإن قيل: المراد الطهارة اللغوية ؟
فالجواب: أن حمل اللفظ على حقيقته الشرعية مقدم على اللغوية " انتهى. "شرح صحيح مسلم" (3 / 184). وينظر : "فتح الباري" (1 / 276).
الوجه الثاني: الأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب ( إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" في هذا الحديث ( فَلْيُرِقْهُ ) وهو يقوي القول بأن الغسل للتنجيس، إذ المراق أعم من أن يكون ماء أو طعاما، فلو كان طاهرا لم يؤمر بإراقته للنهي عن إضاعة المال، لكن قال النسائي: لا أعلم أحدا تابع علي بن مسهر على زيادة فليرقه ...
قلت: قد ورد الأمر بالإراقة أيضا من طريق عطاء عن أبي هريرة مرفوعا أخرجه بن عدي؛ لكن في رفعه نظر، والصحيح أنه موقوف، وكذا ذكر الإراقة حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة موقوفا وإسناده صحيح أخرجه الدارقطني وغيره " انتهى. "فتح الباري" (1 / 275).
الوجه الثالث: أن من الصحابة من صرح أن النجاسة هي سبب الأمر بالغسل في هذا الحديث ، ولا يعرف له مخالف .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" والتعليل بالتنجيس أقوى، لأنه في معنى المنصوص، وقد ثبت عن ابن عباس التصريح بأن الغسل من ولوغ الكلب بأنه رجس رواه محمد بن نصر المروزي بإسناد صحيح ، ولم يصح عن أحد من الصحابة خلافه " انتهى من "فتح الباري" (1 / 277).
ثانيا :
المشهور من أقوال الإمام مالك رحمه الله تعالى: أن لعاب الكلب ليس بنجس ، وإنما يغسل الإناء الذي ولغ فيه تعبدا.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" واختلف الفقهاء أيضا في سؤر الكلب وما ولغ فيه من الماء والطعام .
فجملة ما ذهب إليه مالك واستقر عليه مذهبه عند أصحابه: أن سؤر الكلب طاهر، ويغسل الإناء من ولوغه سبعا ؛ تعبدا " انتهى من "التمهيد" (18 / 269).
وينظر : "المقدمات الممهدات" لابن رشد ـ الجد ـ (1 / 89 - 90) .
وقد انتصر لهذا القول - طهارة لعاب الكلب – ابن المنذر والبخاري رحمهما الله تعالى.
وأقوى ما استندوا إليه:
الدليل الأول:
الآية التي نصت على الأكل مما أمسكه كلب الصيد على صاحبه ولم تأمر الآية بغسل هذا الصيد ؛ حيث قال الله تعالى :
( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ) المائدة /4.
قال ابن رشد رحمه الله تعالى:
" فذهب مالك في الأمر بإراقة سؤر الكلب وغسل الإناء منه، إلى أن ذلك عبادة غير معللة، وأن الماء الذي يلغ فيه ليس بنجس، ولم ير إراقة ما عدا الماء من الأشياء التي يلغ فيها الكلب في المشهور عنه، وذلك كما قلنا لمعارضة ذلك القياس له .
ولأنه ظن أيضا أنه إن فهم منه أن الكلب نجس العين عارضه ظاهر الكتاب، وهو قوله تعالى: ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) : يريد أنه لو كان نجس العين ، لنجس الصيد بمماسته " انتهى من "بداية المجتهد" (1 / 83 - 84).
وأجيب عن هذا ، بأن لعاب الكلب عفي عنه في هذه الحالة للحاجة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"لُعَاب الْكَلْبِ إذَا أَصَابَ الصَّيْدَ : لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِغَسْلِ ذَلِكَ ، فَقَدْ عفا عَنْ لُعَابِ الْكَلْبِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ ، وَأَمَرَ بِغَسْلِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ رَاعَى مَصْلَحَةَ الْخَلْقِ وَحَاجَتَهُمْ" انتهى من "مجموع الفتاوى" (21/620) .
الدليل الثاني:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنها، أنه قَالَ: ( كَانَتِ الكِلاَبُ تَبُولُ، وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي المَسْجِدِ، فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ) رواه البخاري (174).
فاستدلوا بهذا الحديث أن أبوال الكلاب إذا كانت لا تغسل من المسجد ، فهذا دليل على طهارتها، ودليل على طهارة لعابها من باب أولى ، كما أنه لا يستبعد وصول لعابها إلى بعض أجزاء المسجد.
وقد أجيب عن هذا بجوابين:
الجواب الأول : ما قرره الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى؛ حيث قال:
" والأقرب أن يقال: إن ذلك كان في ابتداء الحال، على أصل الإباحة، ثم ورد الأمر بتكريم المساجد وتطهيرها ، وجعل الأبواب عليها .
ويشير إلى ذلك ما زاده الإسماعيلي في روايته من طريق ابن وهب في هذا الحديث، عن ابن عمر قال: " كان عمر يقول بأعلى صوته : اجتنبوا اللغو في المسجد " .
قال ابن عمر: وقد كنت أبيت في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الكلاب إلخ، فأشار إلى أن ذلك كان في الابتداء، ثم ورد الأمر بتكريم المسجد حتى من لغو الكلام .
وبهذا يندفع الاستدلال به على طهارة الكلب ...
واستدل بذلك ابن بطال على طهارة سؤره لأن من شأن الكلاب أن تتبع مواضع المأكول، وكان بعض الصحابة لا بيوت لهم إلا المسجد فلا يخلو أن يصل لعابها إلى بعض أجزاء المسجد، وتعقب بأن طهارة المسجد متيقنة وما ذكر مشكوك فيه، واليقين لا يرفع بالشك، ثم إن دلالته لا تعارض دلالة منطوق الحديث الوارد في الأمر بالغسل من ولوغه " انتهى. "فتح الباري" (1 / 279).
الجواب الثاني: أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يرشون نجاسات الكلاب بالماء، لأن الشمس والريح كانت تحيلها وتزيلها؛ لهذا بوب أبو داود في سننه على هذا الحديث بقوله : " بَابٌ فِي طُهُورِ الْأَرْضِ إِذَا يَبِسَتْ ". "سنن أبي داود" (1 / 104).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" وهذا الحديث احتج به من رأى أن النجاسة إذا أصابت الأرض، فإنها تطهر بالشمس والريح ونحو ذلك، كما هو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وهو مذهب أبي حنيفة " انتهى من "مجموع الفتاوى" (22 / 180).
فالحاصل ؛ أن ظاهر حديث أبي هريرة رضي الله عنه يدل على نجاسة لعاب الكلب، ولا يترك هذا الظاهر لمجرد وجود حالات مخصوصة من هذا العموم ، مع أن الاحتمال يدخلها أيضا من وجوه أخرى .
ثالثا :
من ذهب إلى نجاسة لعاب الكلب فإنه يوجب طهارة الثوب إذا مسه هذا اللعاب.
ويكون التطهير على الصفة الواردة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والأَوْلى أن يكون التراب في الأولى كما سبق في رواية مسلم.
قال النووي رحمه الله تعالى:
" يستحب جعل التراب في الأولى، فإن لم يفعل ففي غير السابعة أولى، فإن جعله في السابعة جاز " انتهى من "المجموع" (2 / 583).
وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى :
" زيادة " أولاهن بالتراب " وقد رويت بلفظ " السابعة بالتراب " والأرجح الرواية الأولى كما قال الحافظ وغيره على ما بينته فى " صحيح أبى داود " (رقم 66) ويشهد لها الطريق الثامن.
لكن يخالفها حديث عبد الله بن مغفل " وعفروه الثامنة " .
وحديث أبى هريرة أولى لسببين:
الأول: ورود هذه الزيادة عنه من طريقين.
الثانى: أن المعنى يشهد له لأن ترتيب الثامنة يقتضى الاحتياج إلى غسلة أخرى لتنظيفه " انتهى من "ارواء الغليل" (1 / 62).
وإذا تعذر التراب ، أو خيف فساد الثوب : فيستعمل بدله مطهر آخر ، كالصابون ونحوه .
سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" يوجد نقاط تفتيش في بعض المؤسسات الكبرى يستخدم فيها الكلاب المدربة، فتدخل في مقدمة السيارة ثم تبدأ بالشم واللحس. فهل تتنجس بذلك المقاعد والأماكن التي قام الكلب بشمها أو لحسها؟ وجزاكم الله خيراً.
فأجاب:
أما الشم فإنه لا يضر؛ لأنه لا يخرج من الكلب ريق، وأما اللحس فيخرج فيه من الكلب ريق، وإذا أصاب ريق الكلب ثياباً أو شبهها : فإنها تغسل سبع مرات، ولا نقول: إحداها بالتراب؛ لأنه ربما يضر، لكن نقول: يستعمل عن التراب صابوناً أو شبهه من المزيل ويكفي مع الغسلات السبع " انتهى من "لقاء الباب المفتوح" (لقاء 49 / 8 ).
وينظر جواب السؤال رقم (133869).
وأما على قول المالكية ، بطهارة لعاب الكلب : فإنه لا يجب تطهير الثوب منه؛ والغسل سبع مرات : هو حكم تعبدي في الآنية التي يلغ فيها الكلب خاصة ، ولا يقاس عليها غيرها.
جاء في "المدونة" (1 / 116):
" قال ابن القاسم وقال مالك: لا بأس بلعاب الكلب يصيب الثّوب . وقاله ربيعة " انتهى .
وجاء في "مواهب الجليل" (1 / 274) :
" فرع : قال سند: إذا لعق الكلب يد أحدكم : لا يغسلها " انتهى .
فالخلاصة :
أن الراجح هو قول جمهور العلماء بنجاسة لعاب الكلب ، ولا تجوز الصلاة بثوب مسه شيء من لعاب الكلب ، حتى يطهر بما سبق بيانه .
وأما على قول المالكية بطهارة لعاب الكلب : فإنه لا حرج على من صلى بهذا الثوب ، وصلاته صحيحة ولا شيء عليه.
ومن أخذ بهذا القول اقتناعًا بأدلته ، أو تقليدا لمن قاله من الأئمة والعلماء فإنه لا ينكر عليه ، لأن الخلاف في هذه المسألة خلاف معتبر ، ولكلٍّ من الفريقين أدلته التي يرى أنها تؤيد قوله .
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |