عنوان الفتوى : الزنا...تدرجٌ في إنزال العقوبة لا في تحريمه
هل حرم الزنا على مراحل كالخمر ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلم يكن الزنا في يوم من الأيام مباحاً منذ أن خلق الله تعالى الخليقة؛ بل جميع الشرائع جاءت بتحريمه، ولذلك قال الله تعالى عن مريم عليها السلام عندما جاءت بعيسى إلى قومها حكاية عنهم: قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً* يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً [مريم:27-28]. فجعلوا ذلك أمراً عظيماً ومنكراً.
وقد تناهى قبحه حتى استقر فحشه في العقول حتى عند كثير من الحيوانات، كما ذكر البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون الأودي قال: رأيت في الجاهلية قرداً زنا بقردة! فاجتمع القرود عليهما فرجموهما حتى ماتا.
وكان قبيحاً عند العرب قبل البعثة فلم يكن يرتكب الزنا إلا سفاسف الناس وأراذلهم من الإماء والعبيد، ولذلك لما بايعت هند بنت عتبه رضي الله عنها، النبي صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام في البيعة: ولا يزنين، قالت: أو تزني الحرة. وهذا دليل على أنه أمر مستنكر مستقبح حتى في الجاهلية وجاء الإسلام وشدد على حرمته فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء على قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة:12].
وقال سبحانه: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً* وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء:15-16].
وقال في سورة الإسراء: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32].
وقال في صفات عباد الرحمن: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:68-69].
وقال عن المؤمنين: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُمَلُومِينَ [المعارج:29-30].
والأدلة من الكتاب والسنة متضافرة على تحريمه مطلقا من أول وهلة.
ولم يحرم الزنا على مراحل مثلما حرم الخمر.. فقد تدرج الشارع في تحريم الخمر على عدة مراحل ولم يتدرج في تحريم الزنا لعظم قبحه وفحشه وكثرة أضراره وعواقبه، وإنما كان التدرج في إنزال العقوبة بفاعله، فكان في أول الأمر عقوبة الزنا بالإيذاء والتوبيخ والتعنيف بقول الله سبحانه وتعالى: وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء:16].
ثم تدرج الحكم من ذلك إلى الحبس في البيوت بقول الله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً [النساء:15].
ثم استقر الأمر وجعل السبيل فجعل عقوبة الزاني البكر مائة جلدة والرجم للثيب حتى يموت، وكان هذا التدرج ليرتقي بالمجتمع، ويأخذ به إلى العفاف والطهر، وحتى لا يشق على الناس هذا الانتقال فلا يكون عليهم في الدين حرج، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبادة بن الصامت: خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
قال الشوكاني رحمه الله في فتح القدير: في قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].
قال: وهذه الآية ناسخه لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء.
وقد نقل صاحب كتاب فقه السنة: أن كثيرا من الفقهاء يرون أن تقريرعقوبة الزنا كانت متدرجة كما حدث في تحريم الخمر، وكما حصل في تشريع الصيام، فكانت العقوبة أولاً بالإيذاء ثم الحبس ثم استقرت العقوبة الأخيرة التي هي الجلد مع النفي للبكر والرجم للثيب. انتهى
والآيات كما أسلفنا لا تدل على التدرج في التحريم، وإنما تدل على التدرج في العقوبة. وأما التحريم فهو أمر مقطوع به من أول الأمر، بخلاف الخمر وبخلاف فرضية الصيام.
والله أعلم.