عنوان الفتوى : حكم الفرح بما يصيب الغير من مصائب وحكم الغيبة والسب بالقلب وكيفية التوبة من ذلك
إذا اغتبت أحدا بقلبي أو سببته أو فرحت بمصيبته فرحا شديدا دون إيذاء بالقول أو الفعل حتى في غيبته، ثم تبت وندمت ندما شديدا، فهل له حق علي؟ وهل أتحلل منه أم أنه حق لله فأتوب لله فقط، علما بأن ذلك في القلب. وهل يعاقبني الله في الدنيا أو الآخرة بعد التوبة؟ وضميري حول حياتي إلى جحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمسلم يحب الخير للمسلم، ولا يفرح بحصول الشر له ولا يشمت به، فالشماتة بالمسلمين والفرح بما ينزل بهم من بلاء مناف للأخلاق الكريمة، والشيم المرضية التي أمر الله عباده بها, ولا يتصف بذلك من كمل إيمانه وقوي يقينه بربه لحديث مسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
وبالنسبة للغيبة والسب: فلا يكونان بالقلب، وما كان منهما بالقلب فإنه معفو عنه لا يؤاخذ به الإنسان ما لم ينطقه بلسانه أو يتصرف تصرفا دالا عليه كالهمز والغمز وغير ذلك من الإشارات التي تحل محل الكلام، يقول الشيخ العلامة بن باز رحمه الله: القلب لا يترتب عليه شيء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم ـ فما كان في القلب من كونه يهوجس أن فلان كذا وفلان بخيل، وفلانة سيئة الأخلاق، وفلانة بخيلة، ما يضر القلب, وإذا تركها لله كتب الله له حسنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا هم العبد بالسيئة ثم تركها من أجل الله كتبها الله له حسنة, فإن تركها غفلة عنها أو شغلاً عنها لم تكتب عليه ـ مجرد الهم لا يكتب عليه، لأنه من عمل القلب, لكن متى هم وعمل سيئة كتبها الله له سيئة، فإن هم ولم يعمل لم تكتب عليه, فإن تركها من أجل الله كتبها الله له حسنة، وهذا فضله سبحانه وتعالى وجوده وكرمه. اهـ.
وأما ما كان من الغيبة المعتبرة شرعا، فلابد من التوبة منه، وقد اختلف في التوبة منه هل تكفي فيها الشروط الثلاثة المعروفة للتوبة أم لابد من الشرط الرابع، وهو التحلل من المغتاب، فقال بعض العلماء إن الغيبة لابد فيها من التحلل من المغتاب إن أمكن، وذلك بطلب العفو والسماح منه، وإن لم يتمكن من ذلك استغفر له وذكره بخير، وقال آخرون ليس ذلك بلازم، بل يكفي الاستغفار له وذكره بالخير بين الناس، بل الأولى عدم إخباره، لما قد يترتب على ذلك من مضار محققة، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وجمع من أهل العلم، يقول ابن القيم رحمه الله: إن كانت المظلمة بقدح فيه، بغيبة، أو قذف: فهل يشترط في توبته منها إعلامه بذلك بعينه، والتحلل منه، أو إعلامه بأنه قد نال من عرضه، ولا يشترط تعيينه، أو لا يشترط، لا هذا، ولا هذا، بل يكفي في توبته أن يتوب بينه وبين الله من غير إعلام من قذفه واغتابه؟ على ثلاثة أقوال، وعن أحمد روايتان منصوصتان في حد القذف، هل يشترط في توبة القاذف إعلام المقذوف، والتحلل منه أم لا؟ ويخرج عليهما توبة المغتاب والشاتم، والمعروف في مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك اشتراط الإعلام والتحلل، هكذا ذكره أصحابهم في كتبهم، والذين اشترطوا ذلك احتجوا بأن الذنب حق آدمي، فلا يسقط إلا بإحلاله منه، وإبرائه، ثم من لم يصحح البراءة من الحق المجهول شرط إعلامه بعينه، لا سيما إذا كان من عليه الحق عارفًا بقدره، فلابد من إعلام مستحقه به، لأنه قد لا تسمح نفسه بالإبراء منه إذا عرف قدره، واحتجوا بالحديث المذكور، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: من كان لأخيه عنده مظلمة من مال، أو عرض فليتحلله اليوم ـ قالوا: ولأن في هذه الجناية حقين: حقًّا لله، وحقًّا للآدمي، فالتوبة منها بتحلل الآدمي لأجل حقه، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه، قالوا: ولهذا كانت توبة القاتل لا تتم إلا بتمكين ولي الدم من نفسه: إن شاء اقتص، وإن شاء عفا، وكذلك توبة قاطع الطريق، والقول الآخر: أنه لا يشترط الإعلام بما نال من عرضه، وقذفه، واغتيابه، بل يكفي توبته بينه وبين الله وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به من الغيبة، فيبدل غيبته بمدحه، والثناء عليه وذكر محاسنه، وقذفه بذكر عفته وإحصانه، ويستغفر له بقدر ما اغتابه، وهذا اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية قدس الله روحه.
وقد انتصر القرطبي للقول الأول وأطال الحجج في ترجيحه، والذي يظهر أن الاستحلال من الغيبة وما شابهها يكون أحيانا مطلوبا، وأحيانا لا يكون كذلك، وهذا ما رجحه الشيخ العثيمين ـ رحمه الله ـ حيث يقول بعد استعراض الأقوال السابقة: القول الثالث: وهو قول وسط، ولعله الصواب: إن كان صاحبك الذي اغتبته قد علم بذلك، فلابد من أن تذهب إليه وتستحله، لأنه لن يزول ما في قلبه حتى تستحله، أما إذا لم يعلم فيكفي أن تستغفر له، وأن تثني عليه في المجالس التي كنت تغتابه فيها، والله غفور رحيم. اهـ.
والله أعلم.