عنوان الفتوى : تبكي على فراق ابنتها التي ماتت بسببها، وتلوم نفسها، فهل عليها ملام؟

مدة قراءة السؤال : 3 دقائق

لقد فارقت طفلتي الصغيرة الحياة، ورجعت إلى ربها رحمها الله، وقد كانت في غيبوبة قبل أن تفارق الحياة بسبب جهل مني. لقد نويت الصوم شهرين متتاليين، وأريد الاستفسار عن الدية. قد سامحني زوجي بالدية، فمن أيضا له الحق في الدية، فابنتي رحمة الله عليها لها أخت واحدة صغيرة، ولديها جدة، وجد، وأقرباء آخرون كالعم والعمة. أنا حزينة لفراق ابنتي، وأيضاً لتسبب تفريطي في ضررها، وكل يوم أبكي بصوت من منخفض إلى متوسط الارتفاع، ولكن ليس بصياح، فهل هذا يعذب الميت. قال لي أحد أهلي إنه يوجد خلل في عقيدتي؛ لأنني ألوم نفسي، وما زلت حزينة. أرجو منكم إيضاح الكثير من الأدلة في هذه الأمور كلها، فأخشى أن يكون في قلبي ضلال. بفضل الله إنني مؤمنة بأن أجل ابنتي مكتوب عند الله. أشعر بالشوق الشديد للقاء ابنتي في الجنة. نسأل الله أن يكتبنا من أهلها، وأخشى أن يكون شوقي للقاء ابنتي أكثر من شوقي للقاء رسول الله عليه الصلاة والسلام. وهل الأحاديث ما ورد عن أطفال المسلمين بعد الوفاة من أهل الجنة صحيحة. كثر همي في الفوز في الآخرة. نسأل الله ذلك، وأصبت بوساوس بذات الله ما يؤلمني كثيرا، لا أدري أهي من شر نفسي أم من الشيطان، وخاصة عند ذكر الله، فهل هذا ضعف في الإيمان. أخشى أن تأتيني هذه الوساوس في لحظات موتي. وأيضاً أشعر أن هذه الدنيا فانية، وأعلم أن راحة المؤمن هو الفوز في رضوان الله ودخول الجنة، فأتمنى أن أكون من الفائزين بذلك، وأن ينتهي هذا الاختبار العسير (الحياة الدنيا) برضوان الله، والفوز بجناته. نسأل الله ذلك. فهل مما أقول فيه أي خلل في العقيدة، أو القنوط من رحمة الله، أو الأمن من مكر الله؟ وكيف نفوز بالمحبة والشوق إلى لقاء الله، مع الخوف من لقائه بسبب كثرة ذنوبنا، وعدم عبادة الله عز وجل حق عبادته؟

مدة قراءة الإجابة : 7 دقائق

الحمد لله.

أولا:

نسأل الله تعالى لك الصبر والسلوان، وأن يجمعك بابنتك وجميع أحبابك في جنات النعيم، وأن يعينك على مصابك كما أعان سبحانه وتعالى الصابرين الصادقين على مصابهم، وأنت تعلمين أن الدنيا دار ابتلاء لا تصفو لأحد، والناس فيها مسافرون إلى ربهم، تنتهبهم المصائب عن اليمين والشمال، فتلفتي حولك هل ترين إلا مكلوماً أو مفجوعاً أو مصاباً .

يقول أبو إسحاق الألبيري الزاهد :

وليست هذه الدنيا بشيءٍ *** تسوؤك حقبة وتسر وقتا

وغايتها إذا فكرت فيها *** كفيئك أو كحلمك إذ حلمتا

ولذلك ينبغي أن يوطن كل واحد منا نفسه على تقبل العيش في أقسى الظروف، وأشد الابتلاءات، ففي اللحظة التي وعينا فيها أنفسنا في هذه الدار أدركنا جميعا أننا معرضون لكل ما فيها من سعادة أو شقاء، ومن فرح أو حزن، لا فرق بين صغير وكبير، ولا مؤمن وكافر، ولا ذكر وأنثى.

ولكننا نعلم – بفضل إيماننا والحمد لله – أن تجاوزنا فترات البلاء إنما يكون لأجل الله، وثقة برحمته بنا، ووعده لنا سبحانه بالنعيم المقيم في جنات النعيم؛ لأننا نحيا بحبه، ونموت مقبلين عليه، ونعيش وكلنا أمل وعزم أن نكون صالحين مصلحين في هذه الدنيا، فأمتنا أمة مرحومة لأجل ذلك، كما يقول تعالى: ( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ . لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يونس/62-64

فأي حزن يبقى في قلبك أختي السائلة بعد سماع هذه الآيات المباركات !

وأي خوف يصيبك بعد أن طمأنك الله عز وجل من فوق سبع سماوات !

فما عليك إلا أن تثقي بموعود الله، وتفوضي أمرك إليه، وتتفاءلي بفضله، فهو سبحانه الكريم البر الرحيم، وسيأخذ بناصيتك لما فيه الخير والسعادة لك في الدنيا والآخرة، إن أنت حفظت معه العهد، واستقمت على حسن العبودية له عز وجل، واستسلمت لقضائه بالرضى واليقين، وكان ذكرك في الأولى والآخرة: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي وأخلفني خيرا منها.

يقول سبحانه وتعالى (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فإذا سلم العبد لله بنفاذ قدره ووقوع أمره هانت عليه المصائب، واحتسبها عند الله تعالى. فكيف إذا علم أن فيها خيراً له، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه) رواه البخاري" انتهى من "تفسير القرآن العظيم" (4/315)

فالواجب عليك بعد التمعن في هذه الآيات الكريمات صرف الوساوس عن قلبك، وترك كل ما تفكرين به من أسئلة اللغو والإرهاق، فهي لن تقدم ولن تؤخر شيئا من قدر الله، وإنما تزيدك رهقا وحزنا وألما بغير طائل، والله سبحانه وتعالى لا يريد منا هذا النموذج في العيش، نموذج الانطواء والبكاء وكثرة الوساوس في ذات الله وفي حكمة القدر. المهم أن نحيا في ظل مقاصد الشريعة العليا، ونتجاوز ما مضى وفات بالتوبة والاستغفار.

ثانيا:

الأحاديث الواردة في التبشير بأحوال المتوفين من أطفال المسلمين أحاديث صحيحة، من أشهرها أنهم يتنعمون في كفالة ورعاية سيدنا إبراهيم عليه السلام، كما جاء في الحديث: (وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّويلُ الذي فِي الرَّوضَةِ فَإِنَّه إبراهيمُ، وَأَمَّا الوِلدَانُ الذِينَ حَولَه فَكُلُّ مَولُودٍ مَاتَ عَلَى الفِطْرَةِ، فَقَالَ بَعضُ المُسلِمِين: يَا رَسُولَ اللهِ وَأَوْلَادُ المُشْرِكِين؟ فَقَالَ : وَأَوْلَادُ المُشرِكِين) رواه البخاري (7047)

والذي يظهر من كلام أهل العلم، أن الأولاد في كفالة إبراهيم عليه السلام من حين موتهم، وذلك في الجنة، وليس في السماء السابعة .

وعن أبي حسان قال: (قلتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إنَّه قَدْ مَاتَ لِي ابنانِ، فَمَا أَنْتَ مُحَدِّثِي عَنْ رَسُولِ اللهِ بِحَدِيْثٍ تُطَيِّبُ بِهِ أَنْفُسَنَا عَنْ مَوْتَانَا؟ قالَ: نَعَمْ، صِغَارُهُم دَعَامِيْصُ الجَنَّةِ، يَتَلَقَّى أَحَدُهُم أَبَاهُ - أَوْ قَالَ أَبَوَيْهِ - فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ، - أَوْ قَالَ بِيَدِهِ - كَمَا آخُذُ أَنَا بِصَنَفَةِ ثَوْبِكَ هذا، فَلَا يَتَنَاهَى حتى يُدخِلَه اللهُ وَأَبَاهُ الجَنَّةَ) رواه مسلم (2635)

يرجى النظر في موقعنا في الأرقام الآتية: (71175)، (117432)، (150012)

ثالثا:

إذا كان سبب وفاة الطفلة المباشر هو أمها فعلا، وتبين للفقيه مسؤولية الأم الشرعية عن القتل الخطأ، فالواجب عليها الكفارة، وعلى عاقلتها الدية.

الدية تُدفع للورثة، وهم هنا الأب فقط، فأخت الطفلة لا ترث بحضور الأب، فإذا أسقط الأب حقه في الدية فقد عفا وأصلح وأجره على الله سبحانه. وأما الكفارة – التي هي صيام شهرين متتابعين - فواجبة ولا تسقط بإسقاط أحد.

يقول الإمام الماوردي رحمه الله:

"الدية موروثة ميراث الأموال بين جميع الورثة من الرجال والنساء من ذوي الأنساب والأسباب، وهو متفق عليه. بالنص والإجماع" انتهى من "الحاوي الكبير" (12/99)

ويقول ابن قدامة رحمه الله:

"دية المقتول موروثةٌ عنه كسائر أمواله... روى الإمام أحمد بإسناده، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم (قضى أن العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم)" انتهى من "المغني" (6/388)

والله أعلم.