عنوان الفتوى : دفع الضرر من صميم الإيمان بالقدر
أنا مؤمن بالله سبحانه وتعالى وأدرك أن الإسلام نعمة عظيمة في تسامحه وتعامله وأنه السبيل الوحيد للنجاة من عذاب الحريق في الآخرة بعد رحمة الله سبحانه، والله أكرمني بعقل متدبر ومتفكر أحمده على هذه النعمة وأحمده على كل حال، ولا أقبل أن أشك في ديني ولكن أحب أن آخذه عن علم تام، وفي مرات عديدة أفكر في مفهوم القدر وأننا خلقنا لعبادته وأن كل شيء مقدر ومكتوب وأن لله ما أخذ وما أعطى... وأحياناً أمر بظروف في حياتي وأقول ليتني كنت ترابا ولم أُخلق، ولكن أُعارض نفسي بنفسي بأنني أُعارض الله على قدره، أريد مفهوما عن القدر، ولماذا كل شيء مقدر ومكتوب حتى إنه مقدر ومكتوب لي أن أكتب هذا الكلام؟ وما علاقة القدر بالأسباب؟ وعندما أفشل في أمر ما في حياتي أقول هذا مقدر ومكتوب، ثم أسمع كلاما داخل عقلي يقول لي هذا الكلام تخدير نفسي لك، وماهي علاقة أفعال الماضي بالحاضر؟ وكيف يقلب الله قلوب العباد؟ وكيف ندعو الله أو نستغفره لكي يرزقنا أو يعيننا أو يصبرنا... إلخ، رغم أن كل شيء مقدر ومكتوب لنا، سمعت أن الدعاء يرد القضاء والقدر؟ وهل كل ما أصابتنا مصيبة نقول هذا مقدر ومكتوب من غير أن ندافع عن حقوقنا أو نكف عنّا الشر؟ يعلم الله أنني أريد إجابة مقنعة كي أزداد إيماناً بالله ولا يخالطني شك في ديني الذي نشأت عليه ولا أريد أن أصل إلى طريق مغلق يجعلني أنفي وجود خالق ومدبر لهذا الكون... ولا أريد أن أكون من هؤلاء الذين ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه:... يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا...الحديث، فقط أريد إجابات مقنعة عن علم تزيدني إيماناً بالله سبحانه وتعالى، حتى ولو كانت الأسئلة ثقيلة الإجابة. وجزاكم الله خير.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقضية الإيمان بالقضاء والقدر ذهب الناس فيها إلى طرفين ووسط، فأما الطرفان فأحدهما جعل العبد مسيرا، فليس له مشيئة أو إرادة، وهذا هو مذهب الجبرية، والآخر جعله مخيرا خالقا لأفعال نفسه، فلا يجري عليه قضاء الله وقدره السابق، وهذا هو مذهب القدرية، وأما الوسط ـ وهم أهل السنة ـ فالعبد عندهم ميسر لما خلق له، فلا يصح إطلاق كونه مسيرا أو مخيرا هكذا بإطلاق، بل هو مسير من وجه، ومخير من وجه آخر.. بمعنى أنه من جهة يؤمن بقضاء الله وقدره الذي لا يخرج عنه شيء في الكون، ومن جهة أخرى يؤمن بأن الله تعالى قد خلق له إرادة ووهبه مشيئة، بها يكتسب عمله ويحاسب عليه، وكذلك ما يقع للمرء من أمور وأحوال وحوادث في دنياه مما يحب أو يكره، هي كلها بقضاء الله وقدره، ولا يتعارض هذا مع حصولها واقترانها بأسبابها، فإن الأسباب نفسها من قدر الله تعالى، وقد سبق لنا إيضاح ذلك في عدة فتاوى، منها الفتاوى التالية أرقامها: 130562، 8652، 79824، 116993.
وللشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي شرح للقصيدة التائية في حل المشكلة القدرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية وهي الرسالة الموسومة بـ: الدرة البهية ختمها الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ بذكر أمثلة متنوعة تكشف مسألة القضاء والقدر، وقال: حيث كان المقام من أهم الأمور، وقد حارت فيه أفهام كثير من الأذكياء، ولم يهتد إلى الصواب المحض كثير من العلماء، وكثير منهم يأخذ مسائله على وجه التقليد، غير مقتنع بوجه يجمع فيه بين الإيمان بشمول القضاء والقدر، مع أن العبد هو الفاعل حقيقة لفعله وهو الممدوح أو الملوم على كسبه، مع أن الشيخ ـ يعني ابن تيمية رحمه الله ـ حقق هذا المقام في هذا النظم، غاية التحقيق، وبين فيه الهدى من الضلال، حتى وضح الطريق، لكن الأمثلة تزيد البصير بصيرة، وتزيل عن الشاك الطالب للحق الريب والحيرة، ولهذا، نقول في ضرب الأمثلة المتعلقة بهذه المسألة العظيمة....اهـ.
ثم ضرب خمسة أمثلة، ينبغي للسائل أن يرجع إليها، بل يقرأ الشرح كله، ليزول عنه ما يجد في هذا الباب، وليقف على جلية مذهب أهل السنة فيه، وكان المثال الخامس والأخير منها: في الآجال والأرزاق، ومما قال فيه: اعلم أن الآجال والأرزاق كسائر الأشياء مربوطة بقضاء الله وقدره، فالله تعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر... ومع ذلك فهي أيضا كغيرها: لها أسباب دينية وأسباب طبيعية مادية، والأسباب تبع قضاء الله وقدره ـ ثم ذكر جملة من الأسباب الدينية والمادية ثم قال: وكل هذه الأمور تابعة لقضاء الله وقدره، فإن الله تعالى قدر الأمور بأسبابها: فالأسباب والمسببات من قضاء الله وقدره، ولهذا لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله؛ أرأيت أدوية نتداوى بها، وتقاة نتقيها، ورقي نسترقيها؛ هل ترد من قضاء الله وقدره شيئا؟ فقال: هي من قضاء الله وقدره ـ وكذلك: الأدعية المتنوعة سبب كبير لحصول المطلوب، والسلامة من المرهوب، وقد أمر الله بالدعاء ووعد بالإجابة، والدعاء نفسه والإجابة كلها داخلة في القضاء والقدر، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالعمل بكل سبب نافع، مع الاستعانة بالله، كما ثبت في الصحيح مرفوعا: احرص على ما ينفعك واستعن بالله ـ فهذا أمر بالحرص على الأسباب النافعة في الدين والدنيا، مع الاستعانة بالله، لأن هذه الاستقامة، وذلك أن الانحراف من أحد أمور ثلاثة:
1ـ إما أن لا يحرص على الأمور النافعة، بل يكسل عنها وربما اشتغل بضدها.
2ـ أو يشغل بها، ولكن يتكل على حوله وقوته، وينظر إلى الأسباب ويعلق جميع قلبه بها، وينقطع عن مسببها.
3ـ أو لا يشتغل بالأسباب النافعة يزعم: أنه متوكل على الله، فإن التوكل لا يكون إلا بعد العمل بالأسباب.
فهذا الحديث بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم الطرق النافعة للعباد. اهـ.
وإذا تقرر هذا، عُرف أن دفع الضرر، لا يتنافى مع الإيمان بالقدر، وأن العاقل يفر من قدر لا يناسبه إلى قدر يناسبه، ويدفع قدرا يؤلمه ويحزنه بقدر يريحه ويسره، وراجع في ذلك الفتويين رقم: 111219، ورقم: 132376.
وأخيرا ننبه على أن الاشتباه أو الإشكال إن وقعا في مسألة من المسائل، فلا يصح أن يكون ذلك سبيلا للريبة والفتنة في الدين، فإن قواطع الأدلة، ومحكمات الشريعة، وبراهين الديانة، أثبت وأعمق من هذا بكثير! فلا يليق بمؤمن أن يؤدي به إشكال إلى نفي وجود خالق ومدبر لهذا الكون ... إلى آخر ما ذكره السائل، فنحن نعيذك بالله تعالى أن يكون إيمانك بهذه المثابة من الضعف. فاستعن بالله تعالى وأقبل على تعلم العلم الذي ينفي عنك الشبهات، وأكثر من هذا الدعاء: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ {آل عمران:8}.
يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك.
والله أعلم.