عنوان الفتوى : كيف ينسى الإنسان فضائل نفسه؟
كيف ينسى الإنسان فضائل نفسه؟ فعمر بلِّغ بأنه من المبشرين بالجنة، وقد خاف على نفسه النفاق، والأمن من مكر الله، والخوف من عقابه، فكيف اكتسب هذا هو، وسائر الصحابة؟ وما الخطوات التي يقوم بها المرء؛ لكي يكتسب هذا الخلق من نسيان فضائل نفسه كما سردت من قبل، وكأنه لم يفعل شيئًا؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيجيبك عن هذا التساؤل ابن الجوزي في صيد الخاطر فيقول: فصل: إذا تم علم الإنسان لم يدلَّ بعمله، إذا تم علم الإنسان لم ير لنفسه عملًا، وإنما يرى إنعام الموفق لذلك العمل، الذي يمنع العاقل أن يرى لنفسه عملًا، أو يعجب به، وذلك بأشياء: منها: أنه وفق لذلك العمل: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ {الحجرات: 7}
ومنها: أنه إذا قيس بالنعم لم يف بمعشار عشرها.
ومنها: أنه إذا لوحظت عظمة المخدوم، احتقر كل عمل وتعبد، هذا إذا سلم من شائبة، وخلص من غفلة، فأما والغفلات تحيط به، فينبغي أن يغلب الحذر من رده، ويخاف العتاب على التقصير فيه، فيشتغل عن النظر إليه، وتأمل على الفطناء أحوالهم في ذلك: فالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار، لا يفترون، قالوا: ما عبدناك حق عبادتك، والخليل - عليه السلام - يقول: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي {الشعراء: 82} وما أدل بتصبره على النار، وتسليمه الولد إلى الذبح، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما منكم من ينجيه عمله، قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته ـ متفق عليه ـ وأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ يقول: وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟! وعمر ـ رضي الله عنه ـ يقول: لو أن لي طلاع الأرض ـ ملؤها ـ لافتديت بها من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر ـ وابن مسعود يقول: ليتني إذا مت لا أبعث، وعائشة ـ رضي الله عنها ـ تقول: ليتني كنت نسيًا منسيًا ـ وهذا شأن جميع العقلاء، فرضي الله عن الجميع. انتهى.
وروى البخاري عن ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: اسْتَأْذَنَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَبْلَ مَوْتِهَا عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ مَغْلُوبَةٌ، قَالَتْ: أَخْشَى أَنْ يُثْنِيَ عَلَيَّ، فَقِيلَ: ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ وُجُوهِ المُسْلِمِينَ، قَالَتْ: ائْذَنُوا لَهُ، فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدِينَكِ؟ قَالَتْ: بِخَيْرٍ إِنِ اتَّقَيْتُ، قَالَ: فَأَنْتِ بِخَيْرٍ ـ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ـ زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَنْكِحْ بِكْرًا غَيْرَكِ، وَنَزَلَ عُذْرُكِ مِنَ السَّمَاءِ ـ وَدَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ خِلاَفَهُ، فَقَالَتْ: دَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَثْنَى عَلَيَّ، وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ نِسْيًا مَنْسِيًّا.
قال ابن حجر: هُوَ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْوَرَعِ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
ويُزاد على هذا أنَّ قبول الأعمال إنما هو من فضل الله ورحمته؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله، إني رسول الله، وما أدري ما يفعل بي. رواه أحمد، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله -.
قال ابن القيم في مدارج السالكين: كلما شهدت حقيقة الربوبية، وحقيقة العبودية، وعرفت الله، وعرفت النفس، وتبيَّن لك أنَّ ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق، ولو جئت بعمل الثقلين، خشيت عاقبته، وإنما يقبله بكرمه، وجوده، وتفضله، ويثيبك عليه أيضًا بكرمه، وجوده، وتفضله.
وكذلك مما يعين على عدم الاتكال على الأعمال أنَّ يستحضر العبد أن قلبه ليس بيده، وإنما بيد ربه، يقلبه كيف يشاء، وأنه لا يأمن على نفسه الفتنة، فقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء ـ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك.
قال ابن رجب الحنبلي: كان الصحابة، ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم، وجزعهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة، فيخرجه إلى النفاق الأكبر، كما تقدم أن دسائس السوء الخفية توجب سوء الخاتمة.
وراجع للفائدة في علاج العجب الفتويين رقم: 234673، ورقم: 106195.
وراجع فصل: بيان الدواء الذي به يستجلب حال الخوف، من ربع المنجيات من الإحياء، أو مختصراته.
والله أعلم.