عنوان الفتوى : شروط تحقق الوعد والوعيد وأسباب تخلفهما

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

أرجو العناية بهذا

مدة قراءة الإجابة : 14 دقائق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فننبهك أولا إلى أنه قد ورد في سؤالك تعبيرات خطيرة، ولا تليق بمن يدعي أنه مؤمن بالله، ومحافظ على الصلوات الخمس في مواعيدها، ويتصدق، ويصوم، وبار بوالديه ويقوم الليل، ولا يستمع إلى الأغاني...
مع أن عبارة: "بل وحتى مجرد سماع الأغاني تركته" لا يخفى ما فيها من الاستخفاف بهذا الحكم الشرعي.

وكيف يدعي الإيمان، والمحافظة على أوامر الله من يقول إن هناك وعودا من الله، ومن نبيه صلى الله عليه وسلم قد يكون وصل إلى درجة أنه لا يصدقها... وأن ما سوى ابتلاء المؤمن بالسراء والضراء من الوعود قد أصبح لا يعيره اهتماما عندما يمر به في القرآن، أو السنة، أو يسمعه في محاضرة...
فننصحك بالمبادرة إلى التوبة من هذا الكلام؛ فإنه في غاية الخطورة.

 وفي خصوص ما أوردته من استشكالات: فاعلم أن نصوص الوعد، وكذلك نصوص الوعيد لها شروط وموانع، فإذا حصلت الشروط، وانتفت الموانع حصل الوعد والوعيد. وإذا تخلف شرط، أو وجد مانع فإنه قد يوجد العكس.

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- في مجموع الفتاوى: وتناول نصوص الوعد للشخص مشروط بأن يكون عمله خالصا لوجه الله، موافقا للسنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليقال. فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله. وكذلك تناول نصوص الوعيد للشخص مشروط بألا يكون متأولا، ولا مجتهدا مخطئا. فإن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان. انتهى.
 وقال أيضا رحمه الله: والذي عليه أهل السنة والجماعة الإيمان بالوعد والوعيد، فكما أن ما توعد الله به العبد من العقاب قد بين سبحانه أنه بشروط: بأن لا يتوب، فإن تاب، تاب الله عليه. وبأن لا يكون له حسنات تمحو ذنوبه؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات، وبأن لا يشاء الله أن يغفر له. {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. فهكذا الوعد له تفسير وبيان. فمن قال بلسانه: لا إله إلا الله، وكذب الرسول، فهو كافر باتفاق المسلمين. وكذلك إن جحد شيئا مما أنزل الله. فلا بد من الإيمان بكل ما جاء به الرسول. ثم إن كان من أهل الكبائر فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له؛ فإن ارتد عن الإسلام ومات مرتدا، كان في النار. فالسيئات تحبطها التوبة، والحسنات تحبطها الردة. ومن كان له حسنات وسيئات، فإن الله لا يظلمه بل من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. والله تعالى قد يتفضل عليه ويحسن إليه بمغفرته ورحمته. ومن مات على الإيمان فإنه لا يخلد في النار. انتهى.
 وفوائد ذكر الوعد بالجنة على أعمال معينة ظاهرة لمن تأملها، فمنها الترغيب في فعل الطاعات، والحرص عليها ورجاء الثواب عليها، وأنها سبب لدخول الجنة.
 وأما حديث: بروا آباءكم... الحديث. فقد ضعفه الألباني في الضعيفة، وفي بعض أسانيده كذاب؛ ولهذا قال الشوكاني- رحمه الله- في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: وَفِي لَفْظٍ: بَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم. في إسناده: كذاب. انتهى.

 وأما ما ذكرته من (أن الله يحفظ العبد الصالح ويحفظ ولده) فهو ليس بحديث، ولكنه منقول عن السلف بمعناه وبلفظ قريب منه.

 فقد ذكر ابن جرير الطبري- رحمه الله- في تفسيره عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا {الكهف:82}. قال: حفظا بصلاح أبيهما، وما ذكر منهما صلاح. انتهى.

 ونقل البغوي- رحمه الله- في تفسيره عن محمد بن المنكدر- رحمه الله- أنه قال: إِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ بِصَلَاحِ الْعَبْدِ وَلَدَهُ، وَوَلَدَ وَلَدِهِ، وَعِتْرَتَهُ، وَعَشِيرَتَهُ، وَأَهْلَ دُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ، فَمَا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اللَّهِ مَا دَامَ فِيهِمْ. انتهى.
وهذا الاستشكال هو من نفس الباب السابق، وهو أن صلاح الوالدين سبب لحفظ وصلاح الأولاد، ولكن قد يتخلف لاختلال شرط أو وجود مانع. كما أن فساد الوالدين سبب لفساد الأولاد، ولكن قد يتخلف تأثير هذا السبب لحكمة يعلمها الله، كما هو شأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ فإن أباه كان مشركا، أما إبراهيم فكان إمام الحنفاء.
وكذلك القول في الصلاة وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأن القرآن حافظ لصاحبه، فلهذه الأمور شروط قد تتخلف، ولها موانع قد تمنع ما يترتب عليها.
 قال الشيخ السعدي- رحمه الله تعالى- في تفسيره: ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أن العبد المقيم لها، المتمم لأركانها وشروطها، وخشوعها، يستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تعدم رغبته في الشر، فبالضرورة، مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه، تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها. وثَمَّ في الصلاة مقصود أعظم من هذا وأكبر، وهو ما اشتملت عليه من ذكر الله، بالقلب واللسان والبدن. انتهى.
وكذلك يتضح مما سبق جواب استشكالك عمن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله ... الخ ، ويزيده وضوحا قول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- في الفتاوى الكبرى: وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَأَمْثَالُ ذَلِكَ: مَعَ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]. وَلِهَذَا لَا يُشْهَدُ لِمُعَيَّنٍ بِالْجَنَّةِ إلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ، وَلَا يُشْهَدُ عَلَى مُعَيَّنٍ بِالنَّارِ إلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ؛ وَلَا يُشْهَدُ لَهُمْ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ مِنْ انْدِرَاجِهِمْ فِي الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْدَرِجُ فِي الْعُمُومَيْنِ فَيَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8]. وَالْعَبْدُ إذَا اجْتَمَعَ لَهُ سَيِّئَاتٌ وَحَسَنَاتٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، وَلَا يُحْبِطُ حَسَنَاتِ الْمُؤْمِنِ لِأَجْلِ مَا صَدَرَ مِنْهُ. انتهى.
وكذلك يقال في تخلف انشراح الصدر مع الصدقة في بعض الحالات، وتخلف زيادة المال مع الصدقة مع بعض الناس، أو تخلف الغنى مع الزواج في بعض الزيجات، أن ذلك كله لحكم عظيمة لا نعلمها على جهة التفصيل، مع أن الواقع يشهد أن كثيرا من المتصدقين قد انشرحت صدورهم وازدادت أموالهم، وأن كثيرا من المتزوجين قد أغناهم الله من فضله، ولكن تخلف ذلك مع بعض الناس يكون لحكمة قد نعلمها وقد نجهلها.

 قال ابن القيم- رحمه الله- في عدة الصابرين: قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع، والغنى لآخرين أنفع، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع، والمرض لبعضهم أنفع كما في الحديث الذي رواه البغوي وغيره عن النبي فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى: "إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك. إني أدبر عبادي بهم خبير بصير. انتهى.
فأصل هذه الإشكالات والشبهات –إذا تأملتها- راجعة إلى الخوض في فعل الرب سبحانه وتعالى، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- في تائيته في القدر:
- وأصل ضلال الخلق من كل فرقة ... هو الخوض في فعل الإله بعلة
- فإنهمو لم يفهموا حكمة له ...      فصاروا على نوع من الجاهلية
- فإن جميع الكون أوجب فعله ...    مشيئة رب الخلق باري الخليقة

- وذات إله الخلق واجبة بما ...         لها من صفات واجبات قديمة
- مشيئته مع علمه، ثم قدرة ...         لوازم ذات الله قاضي القضية

-وإبداعه ما شاء من مبدعاته ...       بها حكمة فيه وأنواع رحمة

قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي- رحمه الله- في شرحه لهذه التائية: يذكر الشيخ: أن أصل ضلال الخلق من جميع فرق الضلال، الخوض في فعل الرب. وذلك: أن جميع الكون العالم العلوي، والسفلي وما فيهن من المخلوقات، خلقها الله وأوجدها بمشيئته وقدرته. فإنه تعالى هو الواجب بأسمائه، وصفاته القديمة التي لا أول لها؛ لأنه الأول الذي ليس قبله شيء، ولم يزل بأسمائه وصفاته كذلك. فإذا كانت أوصافه كلها قديمة واجبة؛ لأنه واجب الوجود. فمن لوازم صفاته اللازمة لذاته:

1- العلم المحيط بكل شيء.

2- والقدرة الشاملة لكل شيء.

3- والمشيئة العامة لكل موجود.

فهو تعالى لم يزل عليما، فعالا لما يريد. وأفعاله تعالى وإبداعه لمبتدعاته تابعة لحكمته التي هي وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها. فلم يخلق ولن يخلق شيئا عبثا، بل خلق المخلوقات، وأبدع المبدعات بالحق وللحق، فهي صدرت عن الحق، واشتملت على الحق، وكانت غاياتها المقصودة الحق. فهذا التقرير الصحيح لمذهب أهل السنة والجماعة. وهو الذي دلت عليه الأدلة الكثيرة. فكما أنه تعالى أخبر: أنه على كل شيء قدير، وأنه فعال لما يريد، وأنه إذا أراد أمرا قال له: "كن" فيكون، وأن كل شيء خلقه بقدر، وكل صغير وكبير مستطر، فكذلك قد أخبر: أنه الحكيم الذي شملت حكمته كل شيء، وأنه خلق السماوات والأرض ومن فيهن بالحق، ولم يخلقهما باطلا. {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (صّ: 27) {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون:115) {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} (القيامة:36) . إلى غير ذلك من الآيات الدالات على الأصلين، وهما: عموم مشيئته لكل موجود، وشمول حكمته للخلق والأمر. هذا: الذي يتعين على المكلفين الاعتراف به واعتقاده. انتهى. 
 والله أعلم.

أسئلة متعلقة أخري
هل عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح ينافي الصبر على قدر الله؟
لا تعارض بين الكتابة في اللوح المحفوظ واختيار العبد
أثر الأخذ بالأسباب في حصول المراد
قضاء الله سبحانه دائر بين العدل والفضل
حِكَم تقدير المعاصي
الحكمة من تفاوت الخلق في أرزاقهم
لا يخرج شيء عن قضاء الله تعالى وقدره
هل عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح ينافي الصبر على قدر الله؟
لا تعارض بين الكتابة في اللوح المحفوظ واختيار العبد
أثر الأخذ بالأسباب في حصول المراد
قضاء الله سبحانه دائر بين العدل والفضل
حِكَم تقدير المعاصي
الحكمة من تفاوت الخلق في أرزاقهم
لا يخرج شيء عن قضاء الله تعالى وقدره