عنوان الفتوى : هل أوّل البخاري صفة الوجه بأنه الملك والضحك بأنه الرحمة ؟
هل أوّل الإمام البخاري بعض صفات الله تعالى، كالضحك ، قيل : إنه أوّله بالرحمة، والوجه أوّله بالمُلك؟
الحمد لله
أولا :
بالنسبة لصفة الضحك :
فلا يعرف نص ثابت للبخاري يؤول فيه هذه الصفة بأنها الرحمة .
لكن نسب هذا التأويل إلى صحيح البخاري :
1- الخطابي في " أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري " ( 3 / 1921 ) فقال :
" قال أبو عبد الله : معنى الضحك الرحمة " انتهى .
2- نسبه أيضا البيهقي في " الأسماء والصفات " ( 2 / 72 ) فقال :
" فقد روى الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله أنه قال: معنى الضحك فيه
الرحمة " انتهى .
والبيهقي لعله أخذه من الخطابي لأنه ينقل عنه عادة .
إلا أن هذه النسبة مشكوك فيها ، فهذا الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى رغم سعة
اطلاعه على نسخ صحيح البخاري ينفي وجود هذا النص في النسخ التي اطلع عليها .
قال الحافط ابن حجر رحمه الله تعالى :
" قال – أي الخطابي - وقال أبو عبد الله : معنى الضحك هنا الرحمة قلت – أي ابن حجر
- : ولم أر ذلك في النسخ التي وقعت لنا من البخاري " انتهى من " فتح الباري " ( 8 /
632 ) .
فالحاصل ؛ هو أنه لا نستطيع الجزم بنسبة هذا التأويل للإمام البخاري رحمه الله تعالى ، لأن نسخ صحيح البخاري التي وصلت إلينا والموثوق بها خالية من هذا التفسير ، والله أعلم .
ثانيا :
صفة الوجه :
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى :
" ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) القصص ( 88 ) : إِلَّا مُلْكَهُ ،
وَيُقَالُ: إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ " انتهى من " فتح الباري " ( 8
/ 505 ) .
ويلاحظ ما يلي :
ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى أن في رواية النسفي لصحيح البخاري ، لفظة (
إِلَّا مُلْكَهُ ) منسوبة إلى أبي عبيدة معمر بن المثنى ؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه
الله تعالى :
" قوله إلا وجهه إلا ملكه في رواية النسفي ، وقال معمر : فذكره ، ومعمر هذا : هو
أبو عبيدة ، ابن المثنى وهذا كلامه في كتابه مجاز القرآن ، لكن بلفظ : إلا هو "
انتهى . " فتح الباري " ( 8 / 505 ) .
وعلى هذا يحتمل أن يكون البخاري ذكر هذا التفسير كاختيار له ، ويحتمل
أنه ذكره كتفسير من التفاسير من غير أن يكون قد اختاره ، وقدمه على غيره من الأقوال
الواردة في تفسير الآية .
ثم إن التفسير ( إِلَّا مُلْكَهُ ) يستحيل أن يكون المقصود بملك الله أي : مخلوقات
الله ، لأنه معلوم بطلان هذا المعنى لكل مسلم ؛ فالله تعالى قد نص أن مخلوقاته
ستهلك .
فيبقى أن يقال أنّ المقصود بالملك إذا صفة الملك لله تعالى ، إلا أنه يبقى هنا
إشكال وهو : لماذا خصّ صفة الملك من بين باقي صفات الله تعالى ؟
وأقرب ما يمكن الجواب به أن يقال : إن شطرا كبيرا من سورة القصص : هو ذكر لقصة
شخصين تجبرا وكفرا بسبب ملكهما ، وهما فرعون وقارون .
قال الله تعالى في بداية قصة فرعون :
( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ
طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ
كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) القصص ( 4 ) .
وقال الله تعالى في بداية قصة قارون :
( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ
الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ
قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) القصص
( 76 ) .
وذكر الله تعالى بين هاتين القصتين :
( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ
لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ )
القصص ( 58 ) .
فناسب أن يقال : إن كل مالك ، وما يملك : سيهلك ، وستزول صفة الملك عنه ، ولا يبقى
إلا الله تعالى ، فهو المالك على الحقيقة ؛ ولهذا يقول الله تعالى :
( يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) غافر ( 16 ) .
فيكون هذا التفسير : لا يراد به نفي الوجه ، وإنما هو تفسير للقرآن بالقرآن ، وهو
تفسير للفظ ببعض ما يتعلق به من الصفات والمعاني ، مما يناسب سياق السورة ، لأن
بقاء الوجه يلزم منه بقاء الله تعالى وصفاته ، ومنها صفة الملك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" فإن من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المفسر من الأسماء ، أو بعض
أنواعه ؛ ولا ينافي ذلك ثبوت بقية الصفات للمسمى ، بل قد يكونان متلازمين ... "
انتهى . " مجموع الفتاوى " ( 6 / 390 ) .
والحاصل ؛ أنه مادام هنا اشكال وابهام قائم هل هذا التفسير للبخاري أم
لمعمر ؟ ولماذا اختار لفظة ( إِلَّا مُلْكَهُ ) ؟
فنرجع لإزالة هذا الإشكال إلى عادة البخاري ومذهبه مع نصوص الصفات ، وننظر إلى
تصرّف البخاري مع هذه الآية في مواضع أخرى ؛ لأن كلام العالم المجمل والمشكل يفسر
على وفق عادة هذا العالم ومذهبه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" فإنه يجب أن يفسر كلام المتكلم بعضه ببعض ويؤخذ كلامه هاهنا وهاهنا ، وتعرف ما
عادته [ وما ] يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به ، وتعرف المعاني التي عرف أنه
أرادها في موضع آخر ، فإذا عرف عرفه وعادته في معانيه وألفاظه ، كان هذا مما يستعان
به على معرفة مراده .
وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه ، وترك استعماله في
المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه ، وحمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عرف أنه
يريده بذلك اللفظ بجعل كلامه متناقضا ، وترك حمله على ما يناسب سائر كلامه ، كان
ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه ، وتبديلا لمقاصده وكذبا عليه " انتهى من " الجواب
الصحيح " ( 4 / 44 ) .
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" والكلمة الواحدة يقولها اثنان ، يريد بها أحدهما : أعظم الباطل ، ويريد بها الآخر
: محض الحق . والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه ، وما يدعو إليه ويناظر عليه "
انتهى من " مدارج السالكين " ( 5 / 3954 ) .
والبخاري معروف بأنه يثبت صفات الله تعالى ، ومنها صفة الوجه ، فإنه في كتاب
التوحيد من صحيحه أجرى هذه الآية على ظاهرها ولم يؤولها .
قال رحمه الله تعالى :
" بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) القصص
( 88 ) .
7406 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ،
عَنْ عَمْرٍو ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ
الآيَةُ : ( قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ
فَوْقِكُمْ ) [ الأنعام: 65 ] ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ ، فَقَالَ : ( أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) [ الأنعام: 65
] ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَعُوذُ بِوَجْهِكَ ،
قَالَ: ( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ) [ الأنعام: 65 ] ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَذَا أَيْسَرُ ) " انتهى من " فتح الباري " ( 13 / 388
) .
قال الشيخ عبد الله الغنيمان حفظه الله تعالى :
" وأما قوله: " إلا ملكه " فهذا تأويل بعيد ، وهو مخالف لصنعه هنا ، حيث ذكر الآية
، ثم أتبعها بحديث جابر ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : ( أعوذ بوجهك ) . فهذا
ظاهر جداً في أنه أراد إثبات الوجه صفة لله تعالى " انتهى من " شرح كتاب التوحيد من
صحيح البخاري " ( 1 / 276 ) .
ثالثا :
من الأخطاء الشهيرة التي يقع فيها الناس كثيرا ، المثبت منهم والنافي : أنه إذا
اعتقد إثبات صفة ، ظن أن كل نص ورد فيه " لفظ " هذه الصفة ، يلزم تفسيره بمعنى هذه
الصفة ، والاستدلال به على إثباتها .
وعكس ذلك النافي : إذا رأى في قول قائل من أهل العلم ، تفسير نص ، بما لا يدل على
إثبات الصفة بهذا النص ؛ ظن منه أن هناك تلازما بين ذلك ، وبين نفي الصفة ، واستدل
بذلك التفسير على أن القائل المعين من السلف : ينفي هذه الصفة المعينة ، أو ربما
انتقل من ذلك إلى دعواه : أن يتأول باب الصفات بعامة .
وكلا الأمرين خطأ واضح في الاستدلال ؛ فإنه لا يلزم من بطلان الدليل ، بطلان
المدلول ، ولا يلزم من تأويل النص المعين ، تأويل الباب كله ، بل ولا نفي الصفة
المعينة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وَأَمَّا قُرْبُهُ بِنَفْسِهِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ " قُرْبًا لَازِمًا فِي وَقْتٍ
دُونَ وَقْتٍ؛ وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ شَيْءٌ: فَهَذَا فِيهِ لِلنَّاسِ قَوْلَانِ.
فَمَنْ يَقُولُ هُوَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَقُولُ بِهَذَا .
وَمَنْ لَا يَقُولُ بِهَذَا : لَهُمْ أَيْضًا فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا إثْبَاتُ هَذَا الْقُرْبِ ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ
الْمُتَكَلِّمِينَ وَالصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ ، يَقُولُونَ: هُوَ فَوْقَ
الْعَرْشِ ، وَيُثْبِتُونَ هَذَا الْقُرْبَ.
وَقَوْمٌ يُثْبِتُونَ هَذَا الْقُرْبَ؛ دُونَ كَوْنِهِ عَلَى الْعَرْشِ.
وَإِذَا كَانَ قُرْبُ عِبَادِهِ مِنْهُ نَفْسَهُ ، وَقُرْبُهُ مِنْهُمْ : لَيْسَ
مُمْتَنِعًا عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ مِنْ السَّلَفِ وَأَتْبَاعِهِمْ، مِنْ أَهْلِ
الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ : لَمْ يَجِبْ أَنْ
يُتَأَوَّلَ كُلُّ نَصٍّ فِيهِ ذِكْرُ قُرْبِهِ ، مِنْ جِهَةِ امْتِنَاعِ الْقُرْبِ
عَلَيْهِ .
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الْقُرْبِ عَلَيْهِ : أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَوْضِعٍ
ذُكِرَ فِيهِ قُرْبُهُ ، يُرَادُ بِهِ قُرْبُهُ بِنَفْسِهِ ؛ بَلْ يَبْقَى هَذَا
مِنْ الْأُمُورِ الْجَائِزَةِ ، وَيُنْظَرُ فِي النَّصِّ الْوَارِدِ ؛ فَإِنْ دَلَّ
عَلَى هَذَا ، حُمِلَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى هَذَا حُمِلَ عَلَيْهِ .
وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي لَفْظِ الْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي
مَوْضِعٍ قَدْ دَلَّ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّهُ هُوَ يَأْتِي ، فَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ
دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَأْتِي بِعَذَابِهِ ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى فَأَتَى
اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ وقَوْله تَعَالَى فَأَتَاهُمُ اللَّهُ
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا .
فَتَدَبَّرْ هَذَا ؛ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُ النَّاسُ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ ، إذَا تَنَازَعَ الْنُّفَاةِ وَالْمُثْبِتَةُ فِي صِفَةٍ وَدَلَالَةٍ
نُصَّ عَلَيْهَا ؛ يُرِيدُ الْمُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ اللَّفْظَ - حَيْثُ
وَرَدَ - دَالًّا عَلَى الصِّفَةِ ، وَظَاهِرًا فِيهَا ، ثُمَّ يَقُولُ النَّافِي :
وَهُنَاكَ لَمْ تَدُلَّ عَلَى الصِّفَةِ ، فَلَا تَدُلُّ هُنَا. وَقَدْ يَقُولُ
بَعْضُ الْمُثْبِتَةِ: دَلَّتْ هُنَا عَلَى الصِّفَةِ ، فَتَكُونُ دَالَّةً هُنَاكَ
.
بَلْ لَمَّا رَأَوْا بَعْضَ النُّصُوصِ تَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ ، جَعَلُوا كُلَّ
آيَةٍ فِيهَا مَا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُ يُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى - إضَافَةَ
صِفَةٍ - مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ
اللَّهِ ؛ وَهَذَا يَقَعُ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ الْمُثْبِتَةِ والْنُّفَاةِ ،
وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْغَلَطِ .
فَإِنَّ الدَّلَالَةَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسَبِ سِيَاقِهِ ، وَمَا يُحَفُّ بِهِ
مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْحَالِيَّةِ . وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي أَمْرِ
الْمَخْلُوقِينَ : يُرَادُ بِأَلْفَاظِ الصِّفَاتِ مِنْهُمْ ، فِي مَوَاضِعَ
كَثِيرَةٍ : غَيْرُ الصِّفَاتِ.
وَأَنَا أَذْكُرُ لِهَذَا مِثَالَيْنِ نَافِعَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : صِفَةُ الْوَجْهِ ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ إثْبَاتُ هَذِهِ
الصِّفَةِ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ الصفاتية، مِنْ
الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ والكَرَّامِيَة ، وَكَانَ نَفْيُهَا مَذْهَبَ
الْجَهْمِيَّة ، مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَمَذْهَبَ بَعْضِ الصفاتية
مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ =
صَارَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ : كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً فِيهَا
ذِكْرُ الْوَجْهِ ، جَعَلَهَا مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ ؛ فَالْمُثْبِتُ
يَجْعَلُهَا مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا تُتَأَوَّلُ بِالصَّرْفِ ، وَالنَّافِي
يَرَى أَنَّهُ إذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ صِفَةً ، فَكَذَلِكَ
غَيْرُهَا.
مِثَالُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ، أَدْخَلَهَا فِي آيَاتِ
الصِّفَاتِ طَوَائِفُ مِنْ الْمُثْبِتَةِ والْنُّفَاةِ حَتَّى عَدَّهَا " أُولَئِكَ
" كَابْنِ خُزَيْمَة مِمَّا يُقَرِّرُ إثْبَاتَ الصِّفَةِ وَجَعَلَ " النَّافِيَةَ
" تَفْسِيرَهَا بِغَيْرِ الصِّفَةِ حُجَّةً لَهُمْ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ.
وَلِهَذَا لَمَّا اجْتَمَعْنَا فِي الْمَجْلِسِ الْمَعْقُودِ ، وَكُنْت قَدْ قُلْت:
أَمْهَلْت كُلَّ مَنْ خَالَفَنِي ثَلَاثَ سِنِينَ إنْ جَاءَ بِحَرْفِ وَاحِدٍ عَنْ
السَّلَفِ يُخَالِفُ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْته ، كَانَتْ لَهُ الْحُجَّةُ ،
وَفَعَلْت وَفَعَلْت . وَجَعَلَ الْمُعَارِضُونَ يُفَتِّشُونَ الْكُتُبَ ،
فَظَفِرُوا بِمَا ذَكَرَهُ البيهقي فِي كِتَابِ " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " فِي
قَوْله تَعَالَى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالشَّافِعِيِّ :
أَنَّ الْمُرَادَ قِبْلَةُ اللَّهِ فَقَالَ أَحَدُ كُبَرَائِهِمْ - فِي الْمَجْلِسِ
الثَّانِي - قَدْ أَحْضَرْت نَقْلًا عَنْ السَّلَفِ بِالتَّأْوِيلِ ؟
فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا أَعَدَّ ، فَقُلْت: لَعَلَّك قَدْ ذَكَرْت مَا رُوِيَ فِي
قَوْله تَعَالَى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قُلْت: الْمُرَادُ بِهَا : قِبْلَةُ اللَّهِ !!
فَقَالَ: قَدْ تَأَوَّلَهَا مُجَاهِدٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَهُمَا مِنْ السَّلَفِ
...
قُلْت هَذِهِ الْآيَةُ : لَيْسَتْ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ أَصْلًا ، وَلَا
تَنْدَرِجُ فِي عُمُومِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: لَا تُؤَوَّلُ آيَاتُ الصِّفَاتِ.
قَالَ: أَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْوَجْهِ ؟
فَلَمَّا قُلْت: الْمُرَادُ بِهَا قِبْلَةُ اللَّهِ ، قَالَ: أَلَيْسَتْ هَذِهِ
مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ؟
قُلْت: لَا ؛ لَيْسَتْ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ ، فَإِنِّي إنَّمَا أُسَلِّمُ
أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَجْهِ - هُنَا - الْقِبْلَةُ ، فَإِنَّ " الْوَجْهَ " :
هُوَ الْجِهَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ ، يُقَالُ: قَصَدْت هَذَا الْوَجْهَ ،
وَسَافَرْت إلَى هَذَا " الْوَجْهِ " ، أَيْ: إلَى هَذِهِ الْجِهَةِ ؛ وَهَذَا
كَثِيرٌ مَشْهُورٌ .
فَالْوَجْهُ : هُوَ الْجِهَةُ. وَهُوَ الْوِجْهة .
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ، أَيْ
مُتَوَلِّيهَا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا كَقَوْلِهِ:
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ، كِلْتَا الْآيَتَيْنِ فِي
اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبَتَانِ ، وَكِلَاهُمَا فِي شَأْنِ الْقِبْلَةِ ،
وَالْوَجْهِ ، وَالْوجِهَةِ : هُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْآيَتَيْنِ: أَنَّا
نُوَلِّيهِ: نَسْتَقْبِلُهُ.
قُلْت: وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا
وَأَيْنَ مِنْ الظُّرُوفِ ، وَتُوَلُّوا أَيْ تَسْتَقْبِلُوا. فَالْمَعْنَى: أَيُّ
مَوْضِعٍ اسْتَقْبَلْتُمُوهُ ، فَهُنَالِكَ وَجْهُ اللَّهِ . فَقَدْ جَعَلَ وَجْهَ
اللَّهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُهُ ، هَذَا بَعْدَ قَوْلِهِ:
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ، وَهِيَ الْجِهَاتُ كُلُّهَا ، كَمَا فِي
الْآيَةِ الْأُخْرَى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
فَأَخْبَرَ أَنَّ الْجِهَاتِ لَهُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ : إضَافَةُ
تَخْصِيصٍ وَتَشْرِيفٍ؛ كَأَنَّهُ قَالَ : جِهَةُ اللَّهِ ، وَقِبْلَةُ اللَّهِ ...
وَالْغَرَضُ أَنَّهُ إذَا قِيلَ: " فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ " : لَمْ يَكُنْ هَذَا
مِنْ التَّأْوِيلِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ؛ الَّذِي يُنْكِرُهُ مُنْكِرُو تَأْوِيلِ
آيَاتِ الصِّفَاتِ؛ وَلَا هُوَ مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَيْهِمْ الْمُثْبِتَةُ ؛
فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى ثُبُوتِ صِفَةٍ ، فَذَاكَ شَيْءٌ آخَرُ .." انتهى،
من "مجموع الفتاوى" (6/15-17) .
والله أعلم .
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |