عنوان الفتوى : هل الشكر على المصيبة يزيد من المصائب ؟
هل الشكر على المصيبة يزيد المصائب لأن الله يقول : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) ؟ وهل الحمد في نفس معنى الشكر ؟
الحمد لله
أولا :
الشكر على المصيبة مستحب ، لأنه فوق الرضا بها .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
"والمصائب التي تحل بالعبد ، وليس له حيلة في دفعها، كموت من يعزُّ عليه ، وسرقة
ماله، ومرضه ، ونحو ذلك ، فإن للعبد فيها أربع مقامات:
أحدها : مقام العجز، وهو مقام الجزع والشكوى والسخط ، وهذا ما لا يفعله إلا أقل
الناس عقلاً وديناً ومروءة .
المقام الثاني: مقام الصبر ، إما لله ، وإما للمروءة الإنسانية .
المقام الثالث : مقام الرضى وهو أعلى من مقام الصبر، وفي وجوبه نزاع ، والصبر متفق
على وجوبه .
المقام الرابع : مقام الشكر ، وهو أعلى من مقام الرضى ؛ فإنه يشهدُ البليةَ نعمة ،
فيشكر المُبْتَلي عليها " انتهى من "عدة الصابرين" (67) .
قال القاسمي رحمه الله :
" اعْلَمْ أَنَّهُ مَا مِنْ نِعْمَةٍ مِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، إِلَّا
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَلَاءً بِالْإِضَافَةِ ، وَنِعْمَةً كَذَلِكَ، فَرُبَّ
عَبْدٍ تَكُونُ لَهُ الْخَيْرَةُ فِي الْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَلَوْ صَحَّ بَدَنُهُ
وَكَثُرَ مَالُهُ لَبَطِرَ وَبَغَى ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَلَوْ بَسَطَ
اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) [الشُّورَى: 27] وَقَالَ -
تَعَالَى -: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)
[الْعَلَقِ: 6 وَ 7] ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ وَالْوَلَدُ وَالْقَرِيبُ
وَأَمْثَالُهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا إِلَّا
وَفِيهِ حِكْمَةٌ وَنِعْمَةٌ أَيْضًا.
فَإِذَنْ ؛ فِي خَلْقِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْبَلَاءُ : نِعْمَةٌ أَيْضًا ؛ إِمَّا عَلَى الْمُبْتَلَى ، أَوْ عَلَى غَيْرِ الْمُبْتَلَى، فَإِذَنْ كُلُّ حَالَةٍ لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا بَلَاءٌ مُطْلَقٌ، وَلَا نِعْمَةٌ مُطْلَقَةٌ فَيَجْتَمِعُ فِيهَا عَلَى الْعَبْدِ وَظِيفَتَانِ: الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ جَمِيعًا.
فَإِنْ قُلْتَ: فَهُمَا
مُتَضَادَّانِ ، فَكَيْفَ يَجْتَمِعَانِ ، إِذْ لَا صَبْرَ إِلَّا عَلَى غَمٍّ ،
وَلَا شُكْرَ إِلَّا عَلَى فَرَحٍ؟
فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ قَدْ يُغْتَمُّ بِهِ مِنْ وَجْهٍ ،
وَيُفْرَحُ بِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَيَكُونُ الصَّبْرُ مِنْ حَيْثُ الِاغْتِمَامُ
، وَالشُّكْرُ مِنْ حَيْثُ الْفَرَحُ .
وَفِي كُلِّ فَقْرٍ وَمَرَضٍ
وَخَوْفٍ وَبَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا : خَمْسَةُ أُمُورٍ يَنْبَغِي أَنْ يَفْرَحَ
الْعَاقِلُ بِهَا ، وَيَشْكُرَ عَلَيْهَا:
أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ مُصِيبَةٍ وَمَرَضٍ : يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ
مِنْهَا، إِذْ مَقْدُورَاتُ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا تَتَنَاهَى ، فَلَوْ
ضَعَّفَهَا اللَّهُ وَزَادَهَا ، مَاذَا كَانَ يَرُدُّهُ وَيَحْجِزُهُ ؟
فَلْيَشْكُرْ إِذْ لَمْ تَكُنْ أَعْظَمَ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا.
الثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُصِيبَتُهُ فِي دِينِهِ ، وَفِي
الْخَبَرِ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَا مِنْ عُقُوبَةٍ إِلَّا وَيُتَصَوَّرُ أَنْ تُؤَخَّرَ
إِلَى الْآخِرَةِ ، وَمَصَائِبُ الدُّنْيَا يُتَسَلَّى عَنْهَا بِأَسْبَابٍ أُخَرَ،
تَهُونُ الْمُصِيبَةُ فَيَخِفُّ وَقْعُهَا، وَمُصِيبَةُ الْآخِرَةِ تَدُومُ ،
فَلَعَلَّهُ لَمْ تُؤَخَّرْ عُقُوبَتُهُ إِلَى الْآخِرَةِ ، وَعُجِّلَتْ
عُقُوبَتُهُ فِي الدُّنْيَا، فَلِمَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ ؟
الرَّابِعُ : أَنَّ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ وَالْبَلِيَّةَ : كَانَتْ مَكْتُوبَةً
عَلَيْهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ وُصُولِهَا إِلَيْهِ ،
وَقَدْ وَصَلَتْ ، وَوَقَعَ الْفَرَاغُ ، وَاسْتَرَاحَ مِنْ بَعْضِهَا ، أَوْ مِنْ
جَمِيعِهَا، فَهَذِهِ نِعْمَةٌ.
الْخَامِسُ: أَنَّ ثَوَابَهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، فَإِنَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا
طُرُقٌ إِلَى الْآخِرَةِ ، وَكُلُّ بَلَاءٍ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ :
مِثَالُهُ الدَّوَاءُ الَّذِي يُؤْلِمُ فِي الْحَالِ ، وَيَنْفَعُ فِي الْمَآلِ .
فَمَنْ عَرَفَ هَذَا : تُصُوِّرَ مِنْهُ أَنْ يَشْكُرَ عَلَى الْبَلَايَا، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذِهِ النِّعَمَ فِي الْبَلَاءِ لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ الشُّكْرُ؛ لِأَنَّ الشُّكْرَ يَتْبَعُ مَعْرِفَةَ النِّعْمَةِ بِالضَّرُورَةِ ، وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّ ثَوَابَ الْمُصِيبَةِ أَكْبَرُ مِنَ الْمُصِيبَةِ ، لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ الشُّكْرُ عَلَى الْمُصِيبَةِ ..
ثُمَّ مَعَ فَضْلِ النِّعْمَةِ فِي الْبَلَاءِ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَعِيذُ فِي دُعَائِهِ مِنْ بَلَاءِ الدُّنْيَا ، وَعَذَابِ الْآخِرَةِ ، وَكَانَ يَسْتَعِيذُ مِنْ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ وَغَيْرِهَا ... وَفِي دُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَعَافِيَتُكَ أَحَبُّ إِلَيّ َ ..." انتهى، من " تهذيب موعظة المؤمنين" (287-288).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه
الله :
" الناس إزاء المصيبة على درجات:
الأولى: الشاكر.
الثانية: الراضي.
الثالثة: الصابر.
الرابعة: الجازع.
أمَّا الجازع : فقد فعل محرماً، وتسخط من قضاء رب العالمين الذي بيده ملكوت السموات
والأرض ، له الملك يفعل ما يشاء.
وأمّا الصابر: فقد قام بالواجب، والصابر: هو الذي يتحمل المصيبة، أي يرى أنها مرة
وشاقة، وصعبة ، ويكره وقوعها، ولكنه يتحمل، ويحبس نفسه عن الشيء المحرم ، وهذا
واجب.
وأمّا الراضي: فهو الذي لا يهتم بهذه المصيبة ، ويرى أنها من عند الله فيرضى رضاً
تاماً، ولا يكون في قلبه تحسر، أو ندم عليها ؛ لأنه رضي رضاً تاماً، وحاله أعلى من
حال الصابر.
والشاكر: هو أن يشكر الله على هذه المصيبة.
ولكن كيف يشكر الله على هذه المصيبة وهي مصيبة ؟
والجواب: من وجهين:
الوجه الأول: أن ينظر إلى من أصيب بما هو أعظم ، فيشكر الله على أنه لم يصب مثله .
الوجه الثاني: أن يعلم أنه يحصل له بهذه المصيبة تكفير السيئات ، ورفعة الدرجات إذا
صبر، فما في الآخرة خير مما في الدنيا، فيشكر الله ، وأيضاً أشد الناس بلاءً
الأنبياء ، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل ، فيرجو أن يكون بها صالحاً، فيشكر الله
سبحانه وتعالى على هذه النعمة.
والشكر على المصيبة مستحب ؛ لأنه فوق الرضا ؛ لأن الشكر رضا وزيادة " .
انتهى من الشرح الممتع (5/ 395-396) .
ثانيا :
لا يؤدي الشكر على المصيبة إلى زيادتها ، لأن قول الله تعالى : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ )إبراهيم/ 7 ؛ إنما هو في شكر النعمة
، وليس في الشكر على المصيبة ، بدلالة قوله بعدها : ( وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ
عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) قال السعدي رحمه الله :
" ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ) ؛ أي: أعلمَ ووعد ، ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ
لأزِيدَنَّكُمْ ) من نعمي ( وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) ، ومن
ذلك : أن يزيل عنهم النعمة التي أنعم بها عليهم . والشكر: هو اعتراف القلب بنعم
الله ، والثناء على الله بها ، وصرفها في مرضاة الله تعالى. وكفر النعمة ضد ذلك "
انتهى من " تفسير السعدي " (ص: 422) .
وينظر إجابة السؤال رقم : (125984) .
وراجع إجابة السؤال رقم : (146025)
لمعرفة الفرق بين الحمد والشكر .
والله أعلم .
أسئلة متعلقة أخري |
---|
هل الشكر على المصيبة يزيد من المصائب ؟ |
هل الشكر على المصيبة يزيد من المصائب ؟ |