عنوان الفتوى : لا تعارض بين حديث: فليقل خيرا أو ليصمت وبين قول: الساكت عن الحق شيطان أخرس
كيف نميز، أو كيف يكون هناك توازن بين كل من: فليقل خيرا أو ليصمت ـ وبين: الساكت عن الحق شيطان أخرس؟ وكيف نميز بين هذه العبارة الأخيرة وبين الغيبة والنميمة، حتى لا نقع في ذنب أو إثم عظيم دون أن نقصد؟ أو بمعنى أدق: كيف يكون التوازن وعدم تجاوز الحدود بين كل من: الساكت عن الحق شيطان أخرس ـ وبين: من رأى منكم منكرا فليغيره ـ وبين الغيبة والنميمة؟ وجزاكم الله خيرا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
ففي الصحيحين مرفوعا: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا، أو ليصمت.
والإنسان ليس مخيرا بين الصمت وبين قول الخير، بل إن عليه أن يقول الخير، فإن لم يكن هناك خير يطلب أن يقال فليصمت عن اللغو وعن الشر، ومن الخير الذي يجب قوله ما كان من باب النهي عن المنكر، فإن واجب كل مسلم مكلف إذا رأى منكراً أن يسعى لتغييره حسب استطاعته، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. رواه مسلم.
ويقول ابن القيم رحمه الله: وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك! وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها! وهو بارد القلب ساكت اللسان، شيطان أخرس، كما أن من تكلم بالباطل شيطان ناطق. اهـ.
وقال ابن عبد البر في التمهيد في شرحه لحديث: فليقل خيرا، أو ليصمت ـ وفي هذا الحديث آداب وسنن منها: التأكيد في لزوم الصمت، وقول الخير أفضل من الصمت، لأن قول الخير غنيمة والسكوت سلامة، والغنيمة أفضل من السلامة، وكذلك قالوا: قل خيرا تغنم، واسكت عن شر تسلم ـ قال عمار الكلبي: وقل الخير وإلا فاصمتن ... فإنه من لزم الصمت سلم... اهـ.
وقال النووي: معناه إذا أراد أن يتكلم، فإن كان ما يتكلم به خيرا محققا يثاب عليه واجبا كان أو مندوبا فليتكلم، وإن لم يظهر له أنه خير يثاب عليه فليمسك عن الكلام، فعلى هذا يكون المباح مأمورا بالإمساك عنه خوف انجراره إلى الحرام والمكروه. اهـ.
وليس من الغيبة والنميمة المحرمتين الكلام عمن وقع في المعصية إذا كان الكلام بقصد تغيير المنكر أو المنع من الشر، وقد بين النووي في رياض الصالحين هذا، فقال رحمه الله: اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو ستة أسباب:
الأول: التظلم: فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية، أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول: ظلمني فلان بكذا.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب: فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا فازجره عنه ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حراما.
الثالث: الاستفتاء: فيقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي، أو زوجي، أو فلان بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه وتحصيل حقي ودفع الظلم؟ ونحو ذلك، فهذا جائز للحاجة، ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل، أو شخص، أو زوج كان من أمره كذا؟ فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين، ومع ذلك فالتعيين جائز...
الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم، وذلك من وجوه منها: جرح المجروحين من الرواة والشهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة.
ومنها: المشاورة في مصاهرة إنسان، أو مشاركته، أو إيداعه، أو معاملته، أو غير ذلك، أو مجاورته، ويجب على المشاور أن لا يخفي حاله، بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة.
ومنها: إذا رأى متفقها يتردد إلى مبتدع، أو فاسق يأخذ عنه العلم وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك، فعليه نصيحته ببيان حاله بشرط أن يقصد النصيحة، وهذا مما يغلط فيه وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد ويلبس الشيطان عليه ذلك ويخيل إليه أنه نصيحة فليتفطن لذلك.
ومنها: أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها إما بأن لا يكون صالحا لها، وإما بأن يكون فاسقا، أو مغفلا ونحو ذلك فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة ليزيله ويولي من يصلح، أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله ولا يغتر به وأن يسعى في أن يحثه على الاستقامة أو يستبدل به.
الخامس: أن يكون مجاهرا بفسقه، أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس، وأخذ المكس وجباية الأموال ظلما وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب، إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه.
السادس: التعريف: فإذا كان الإنسان معروفا بلقب كالأعمش والأعرج والأصم والأعمى والأحول وغيرهم جاز تعريفهم بذلك ويحرم إطلاقه على جهة التنقص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى.
فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء، وأكثرها مجمع عليه، ودلائلها من الأحاديث الصحيحة المشهورة. انتهى.
والله أعلم.