عنوان الفتوى : لماذا كان إعفاء اللحية واجبا وصبغها مندوبا رغم أنهما وردا بصيغة الأمر؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

تُعتبر اللحية واجبة ، عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( خالفوا الكفار ، حفوا الشوارب وأعفوا اللحى ) ، ثم نجد النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صبغ الشعر يقول : ( اليهود والنصارى لا يصبغون شعورهم فخالفوهم ). ويؤخذ الأمر في هذا الحديث على الندب ، مع أن الأمر في كلا الحديثين متشابه . فلماذا جعلناه واجباً في حديث اللحية ، ومندوباً في حديث الصبغ ، فهذه مسألة يثيرها من يقول بعدم وجوب إعفاء اللحية ، فأرجوا منكم التوضيح ؟

مدة قراءة الإجابة : 8 دقائق


الحمد لله
هناك فروق ظاهرة بين الأمر بإعفاء اللحية ، والأمر بخضاب الشيب الوارد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى لاَ يَصْبُغُونَ ، فَخَالِفُوهُمْ ) رواه البخاري (3462) ، ومسلم (2103)، يمكن أن نجمل ذلك في ثلاثة أمور :
أولا :
الأمر بإعفاء اللحية لم ترد فيه قرينة تصرفه عن الوجوب إلى الندب ، فلم يرد ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد من أمره بإعفاء اللحية الندب والاستحباب .
أما الأمر بخضاب الشيب فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غالب أحواله بغير خضاب ، رغم وجود شعرات بيضاء يسيرات في رأسه ولحيته الشريفة عليه الصلاة والسلام .
عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: " رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْيَضَ قَدْ شَابَ كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يُشْبِهُهُ " رواه البخاري (3544) ، ومسلم (2343) واللفظ له .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " َلَمْ يَخْتَضِبْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِنَّمَا كَانَ الْبَيَاضُ فِي عَنْفَقَتِهِ وَفِي الصُّدْغَيْنِ وَفِي الرَّأْسِ نَبْذٌ " رواه مسلم (2341) .
يقول الشيخ ابن باز رحمه الله – رادا على كاتب يستدل على عدم وجوب إعفاء اللحية بعدم وجوب صبغ الشيب -:
" جوابه أن يقال : إن الأصل وجوب الامتثال ، ومخالفة اليهود والنصارى بصبغ الشيب ، ولكنه تُرك ذلك لما ورد من الأحاديث الدالة على أن الأمر بتغيير الشيب للندب لا للوجوب ، وبذلك لا يبقى له ولا لغيره من القائلين بعدم اقتضاء الأمر الوجوب حجة في الحديثين المذكورين ؛ لأن محل البحث هو الأمر المجرد ، أما الأمر الذي ورد في الأدلة الشرعية ما يدل على أنه قد أريد به الندب لا الوجوب ، فليس محل البحث عند الجميع " .
انتهى من " مجموع فتاوى ابن باز " (25/340) .
ثانيا :
إعفاء اللحية في قول جمهور الفقهاء من الواجبات ، بل نقل ابن حزم الإجماع على حرمة حلقها ، وإن كان في إثبات هذا الإجماع مقال ، فقد خالف بعض فقهاء الشافعية ، وآخرون في ذلك ، ولكن المقصود هو بيان الفرق بين إعفاء اللحية ، وهذا حكمها ، وبين صبغ الشيب الذي نقل الإمام الطبري رحمه الله الإجماع على عدم وجوبه ، فقال رحمه الله : " [لا] أرى تارك تغييره - وإن كان جميع ما في رأسه ولحيته من الشعر قد ابيض - آثما بترك تغييره ، إذ كان الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغيير ذلك ندبا لا فرضا ، وإرشادا لا إيجابا ... لإجماع سلف الأمة وخلفها على ذلك ... سئل سفيان عن رجل يشيب نصف شعره أو أكثر أو أقل ، متى يستحب له أن يغيره ؟ وهل في ذلك وقت ؟ قال : أي ذلك فعل فحسن ، وليس لذلك وقت " انتهى من " تهذيب الآثار " تحقيق علي رضا (ص/518) ، وقد نقل الإمام النووي رحمه الله هذا الإجماع عن الطبري في كتابه " شرح مسلم " (14/80) مقرا له وساكتا عليه .
ثالثا :
ثبت عن كثير من الصحابة الكرام ترك الشيب على بياضه من غير صبغ ولا خضاب ، منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، كما روى ذلك الطبري في المرجع السابق ، أما إعفاء اللحية فلم يثبت عن أحد من الصحابة الكرام أنه كان يحلقها .
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله - في حديث ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوه )-: " هذا الأمر للاستحباب ، وظاهره أنه للوجوب لأن الأصل في مخالفة اليهود الوجوب ، ولكن نظرا إلى أن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - من كبرائهم- كانوا لا يخضبون ، واشتهر ذلك بينهم ولم ينكر ، يدل على أنهم فهموا أن الأمر للاستحباب وليس للوجوب " .
انتهى " شرح كتاب اللباس من صحيح البخاري " ( نقلا عن ملتقى أهل الحديث).
والخلاصة : أنه لا مقارنة بين وجوب إعفاء اللحية ، واستحباب تغيير الشيب بالخضاب ، ولا يجوز أن يجعل أحد الحُكمَين حَكَمًا على الآخر ، فلكل منهما سببه وتعليله ، حتى وإن اشتركا في صيغة من صيغ الأمر ، أو علة من علله .
رابعا :
ثم إن الأحاديث الصحيحة الواردة في الحث على إعفاء اللحية آكد وأكثر من تلك الواردة بالأمر بصبغ الشيب ، فقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم من سنن الفطرة ، وأخبر أن الله عز وجل أمره بإعفاء اللحية ، مستنكرا على من رآه يحلقها ، كما روى الطبري بإسناده في " تاريخه " (2/655) عن رسولي كسرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَدْ حَلَقَا لِحَاهُمَا ، وَأَعْفَيَا شَوَارِبَهُمَا ، فَكَرِهَ النَّظَرَ إليهما ، ثم أَقْبَلَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ : ( وَيْلَكُمَا ! مَنْ أَمَرَكُمَا بِهَذَا ؟ ) ، قَالا : أَمَرَنَا بِهَذَا رَبُّنَا - يَعْنِيَانِ كِسْرَى- فَقَالَ رسول الله : ( لَكِنَّ رَبِّي قَدْ أَمَرَنِي بِإِعْفَاءِ لِحْيَتِي وَقَصِّ شَارِبِي ") " . وحسنه الألباني في تخريجه أحاديث " فقه السيرة " للغزالي (ص/360) .
أما صبغ الشيب فعلى العكس ، اختلفت فيه الأحاديث ، فوردت فيها الروايات التي تنهى عن صبغه ، وتأمر بتركه على حاله ، في أسانيدها ضعف ، ولكن كثيرا من العلماء تحدثوا في فقهها والتوفيق بينها وبين الأحاديث الصحيحة الواردة في الأمر بالصبغ .
والحاصل : أن الأسباب الأربعة الآنفة الذكر ، كلها فوارق مهمة ، تدفع الفقيه إلى التفريق بين المسألتين ، وعدم التزام القول بحكم واحد للحية وصبغ الشيب ، إما الوجوب وإما الندب ، بل تعفى اللحية وجوبا على اختلاف بين العلماء ، ويصبغ من شاء شيبه ، استحبابا وندبا ، ولا يجب عليه ذلك .
وللتوسع يرجى النظر في الفتوى رقم : (185777) .
والله أعلم .