عنوان الفتوى : ما هي أوجه الاختلاف بين الماتريدية وأهل السنة ؟
أود منكم توضيحا بشأن الاختلاف بين عقيدة السلف والماتريدية ، وهل من يتبع عقيدة الماتريدية سيدخل الجنة ؟
الحمد لله
أولا :
" الماتريدية " : فرقة كلامية بدعية ، تُنسب إلى أبي منصور الماتريدي ، قامت في أصل
أمرها : على استخدام البراهين والدلائل العقلية والكلامية في محاججة خصومها ، من
المعتزلة والجهمية وغيرهم، لإثبات حقائق الدين والعقيدة الإسلامية .
مرت الماتريدية بعدة مراحل ،
ولم تُعرف بهذا الاسم إلا بعد وفاة مؤسسها ، كما لم تعرف الأشعرية وتنتشر إلا بعد
وفاة أبي الحسن الأشعري ، ويمكن إجمال مراحلها في أربع مراحل رئيسية :
- مرحلة التأسيس:
والتي اتسمت بشدة المناظرات مع المعتزلة ، وصاحب هذه المرحلة: أبو منصور الماتريدي
، وهو محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي ، نسبة إلى (ماتريد) وهي محلة قرب
سمرقند فيما وراء النهر، ولد بها.
يعتبر من رواد المدرسة العقلية ، ولم يكن له كبير حظ في العناية بالنصوص الشرعية
والآثار وروايتها ، شأن الغالب الأعم من المتكلمين والأصوليين.
تأثّر أبو منصور الماتريدي بعقائد الجهمية : في عدد من الأبواب ، أهمهما : تأويل
نصوص الصفات الخبرية ، والوقوع في بدع الإرجاء ، ومقالاتهم .
كما تأثر أيضا بابن كلاب (240هـ) أول من ابتدع القول بالكلام النفسي لله عز وجل في
بدعته هذه .
- مرحلة التكوين:
وهي مرحلة تلامذة الماتريدي ومن تأثر به من بعده ، وفيه أصبحت الماتريدية فرقة
كلامية مستقلة بنفسها ؛ ظهرت أولاً في سمرقند ، وعملت على نشر أفكار شيخهم وإمامهم
، ودافعوا عنها ، وصنفوا التصانيف ، متبعين مذهب الإمام أبي حنيفة في الفروع ،
فراجت العقيدة الماتريدية في تلك البلاد أكثر من غيرها.
ومن أشهر أصحاب هذه المرحلة: أبو القاسم إسحاق بن محمد بن إسماعيل الحكيم السمرقندي
وأبو محمد عبد الكريم بن موسى بن عيسى البزدوي .
- مرحلة التأليف والتأصيل
للعقيدة الماتريدية :
وامتازت هذه المرحلة بكثرة التأليف وجمع الأدلة للعقيدة الماتريدية ؛ ولذا فهي أهم
الأدوار السابقة في تأسيس المذهب .
ومن أهم أعيان هذه المرحلة: أبو المعين النسفي ، ونجم الدين عمر النسفي .
- مرحلة التوسع والانتشار:
وتعد من أهم مراحل الماتريدية ، حيث بلغت أوجَ توسعها وانتشارها في هذه المرحلة ؛
وما ذلك إلا لمناصرة سلاطين الدولة العثمانية ، فكان سلطان الماتريدية يتسع حسب
اتساع سلطان الدولة العثمانية ، فانتشرت في: شرق الأرض، وغربها، وبلاد العرب ،
والعجم ، والهند ، والترك، وفارس ، والروم .
وبرز فيها محققون كبار ، أمثال: الكمال بن الهمام .
انتشرت الماتريدية ، وكثر أتباعها في بلاد الهند وما جاورها من البلاد الشرقية : كالصين ، وبنجلاديش ، وباكستان ، وأفغانستان ، كما انتشرت في بلاد تركيا، والروم ، وفارس ، وبلاد ما وراء النهر، وما زال لهم وجود قوي في هذه البلاد .
ثانيا :
أوجه الخلاف بينهم وبين أهل السنة :
- قسّم الماتريدية أصول الدين حسب التلقي إلى:
ـ الإلهيات [العقليات] : وهي ما يستقل العقل بإثباتها والنقل تابع له ، وتشمل أبواب
التوحيد والصفات.
ـ الشرعيات [السمعيات] : وهي الأمور التي يجزم العقل بإمكانها ، لكن لا طريق للعقل
إلى الحكم بثبوتها ، أو امتناعها ؛ مثل: النبوات، وعذاب القبر، وأمور الآخرة ، علما
بأن بعضهم جعل النبوات من قبيل العقليات .
ولا يخفي ما في هذا من
مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة ؛ حيث إن القرآن والسنة وإجماع الصحابة : هي مصادر
التلقي عندهم ، وسواء في ذلك عامة مسائل الدين .
فضلاُ عن مخالفتهم في بدعة تقسيم أصول الدين إلى: عقليات وسمعيات، والتي قامت على
فكرة باطلة : وهي أن أمور الدين والعقائد تنقسم إلى أصول تدرك عقلا ، ولا مجال
للسمع في إثباتها أًصالة ، وإنما هو عاضد لما يدل عليه الدليل العقلي فيها ، وأصول
تدرك بالسمع ، ولا مجال للعقل فيها أصالة .
- تحدث الماتريدية ، شأن غيرهم من الفرق الكلامية : المعتزلة والأشعرية ، عن وجوب
معرفة الله تعالى بالعقل قبل ورود السمع ، واعتبروه أول واجب على المكلف، ولا يعذر
بتركه ذلك ، بل يعاقب عليه ، ولو قبل بعثة الأنبياء والرسل ، وبهذا وافقوا قول
المعتزلة .
وهو قول ظاهر البطلان ، تعارضه الأدلة من الكتاب والسنة التي تبين أن الثواب
والعقاب إنما يكون بعد ورود الشرع، كما قال الله تعالى : ( وَمَا كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) الإسراء/15 .
هذا مع أن الصواب في أول واجب على العباد : إنما هو توحيده سبحانه وتعالى ، والدخول في دينه ، لا أصل المعرفة التي ركزها الله في فطر عامة خلقه .
- مفهوم التوحيد عند
الماتريدية هو: إثبات أن الله تعالى واحد في ذاته، لا قسيم له ، ولا جزء له، واحد
في صفاته ، لا شبيه له ، واحد في أفعاله ، لا يشاركه أحد في إيجاد المصنوعات ،
ولذلك بذلوا غاية جهدهم في إثبات هذا النوع من التوحيد ، باعتبار أن الإله عندهم
هو: القادر على الاختراع ، مستخدمين في ذلك الأدلة والمقاييس العقلية والفلسفية
التي أحدثها المعتزلة والجهمية ، مثل دليل حدوث الجواهر والأعراض ، وهي أدلة طعن
فيها السلف والأئمة وأتباعهم ، وبينوا أن الطرق التي دل عليها القرآن أصح .
- قالوا بإثبات ثمان صفاتٍ لله تعالى فقط ، على خلاف بينهم في بعض التفصيل ، وهي:
الحياة، القدرة ، العلم، الإرادة ، السمع ، البصر ، الكلام ، التكوين .
أما ما عدا ذلك من الصفات التي دل عليها الكتاب والسنة [الصفات الخبرية] من صفات
ذاتية، أو صفات فعلية ، فإنها لا تدخل في نطاق العقل ، ولذلك قالوا بنفيها جميعاً ،
وتأويل النصوص الشرعية الدالة عليها .
أما أهل السنة والجماعة فهم
كما يعتقدون في الأسماء : يعتقدون في الصفات وأنها جميعاً توقيفية ، ويقولون بإثبات
ما دلت عليه النصوص ، بلا تشبيه ، ونزهوا الله عن صفات النقص ، أو مماثلة المخلوقين
، من غير تعطيل لشيء من أسمائه أو صفاته ، مع تفويض الكيفية ، وإثبات المعنى اللائق
بالله تعالى ، لقوله تعالى: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ ) الشورى/11.
- قولهم بأن كلام الله على الحقيقة : إنما يعنون به كلامه النفسي القائم به سبحانه
، الذي لا يسمعه العباد ؛ وأما ما يسمع فهو "عبارة" عن الصفة النفسية القديمة ،
وليس هو حقيقتها !! ولذلك : لم يمتنع عندهم أن يكون ما هو مكتوب في أيدي الناس في
المصاحف : مخلوقا ، فعاد أمرهم إلى قول المعتزلة ، الذي خالفوا فيه أجماع الأئمة ،
وتواتر النقل عن أئمة الدين ببطلانه ، بل وتكفير قائله !!
- تقول الماتريدية في الإيمان : إنه التصديق بالقلب فقط ، وأضاف بعضهم الإقرار
باللسان، ومنعوا زيادته ونقصانه ، وقالوا بتحريم الاستثناء فيه ، وأن الإسلام
والإيمان مترادفان ، لا فرق بينهما، فوافقوا المرجئة في ذلك ، وخالفوا أهل السنة
والجماعة ، حيث إن الإيمان عندهم: اعتقاد بالجنان ، وقول باللسان ، وعمل بالأركان ،
يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
- أثبتوا رؤية الله تعالى في الآخرة ؛ ولكن مع نفي الجهة والمقابلة ، وهذا قول
متناقض ، يثبت الشيء ، ثم يعود فينفي حقيقته .
وللاستزادة حول ذلك الموضوع
، ينظر :
- "الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة" (1/ 95-106) .
- "الماتريدية" ، رسالة ماجستير، أحمد بن عوض الله اللهيبي الحربي.
- "الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات" ، رسالة ماجستير، لشمس الأفغاني
السلفي.
- "منهج الماتريدية في العقيدة" د. محمد بن عبد الرحمن الخميس .
- "الاستقامة" شيخ الإسلام ابن تيمية .
- "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (3/ 307-308) .
ثالثا :
لا يقال عن متبع عقيدة الماتريدية : إنه سيدخل الجنة ، ولا سيدخل النار ، بل هم من
عامة المسلمين كغيرهم ، وإن كانوا قد قالوا بمقالات مبتدعة ، لكن بدعتهم ليست مكفرة
، فهم ، في سائر أحوالهم ، كغيرهم من المسلمين : ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا
أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) النساء/123-124 .
وحالهم في بدعتهم ، بحسب أفرادهم ، متفاوت : فمنهم من تأول ، أو اجتهد اجتهادا يعذر
في مثله ، ومنهم من هو مخطئ خطأ يؤاخذ على مثله ، ثم هو في مشيئة الله : إن شاء
عذبه ، وإن شاء عفا عنه .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وقد ذكر طائفة من أئمة الأشعرية :
" ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة ، وحسنات مبرورة ، وله في
الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع ، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين : ما
لا يخفى على من عرف أحوالهم ، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف .
لكن لما التبس عليهم هذا لأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة ، وهم فضلاء عقلاء :
احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه ، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون
من أهل العلم والدين .
وصار الناس بسبب ذلك :
منهم من يعظمهم ، لما لهم من المحاسن والفضائل .
ومنهم من يذمهم ، لما وقع في كلامهم من البدع والباطل .
وخيار الأمور أوساطها .
وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء ، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين ، والله
تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ، ويتجاوز لهم عن السيئات : ( رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ
فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ )
[الحشر/10] .
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأخطأ
في بعض ذلك : فالله يغفر له خطأه ، تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه
وللمؤمنين حيث قالوا: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا (البقرة: 286) .
ومن اتبع ظنه وهواه ، فأخذ يشنع على من خالفه ، بما وقع فيه من خطأ ظنه صواباً بعد
اجتهاده ، وهو من البدع المخالفة للسنة : فإنه يلزمه نظير ذلك ، أو أعظم ، أو أصغر
، فيمن يعظمه هو من أصحابه ، فقل من يسلم من مثل ذلك في المتأخرين، لكثرة الاشتباه
والاضطراب ، وبعد الناس عن نور النبوة ، وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب ،
ويزول به عن القلوب الشك والارتياب .." انتهى "درء تعارض العقل والنقل" (2/102-103)
.
والله تعالى أعلم .
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |