عنوان الفتوى : مراتب التشبه بالكافرين ومقاصد الشرع في النهي عن التشبه بهم
متى يكون التشبه مكروهًا؟ ومتى يحرم من ناحية مقاصد الشريعة وأصول الفقه؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن مقاصد الشرع في النهي عن التشبه بالكافرين والأمر بمخالفتهم لا يمكن إدراكها إلا باستقراء النصوص الشرعية؛ وذلك لا يتأتى عرضها في مثل هذه الفتوى، ولكن يمكنك معرفة ذلك من خلال قراءتك لكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم, وكذلك يتبين لك من خلال استدلالات شيخ الإسلام كيف أنه استعمل أصول الفقه للدلالة على ذلك.
والأصل أن التشبه بالكافرين فيما يختصون به في دينهم من لباسهم وأعيادهم وعباداتهم أنه محرم، وقد يكون كفرًا, إن كان تشبهًا مطلقًا في كل شيء، وقد يكون مكروهًا في بعض صوره, كالرطانة, وهي التكلم بالأعجمية، وكإفراد يوم عاشوراء بالصوم للتشبه باليهود.
ونسوق لك نقلين عن شيخ الإسلام من كتابه الاقتضاء فيهما بعض بيان لمقاصد الشرع في النهي عن التشبه بهم, والأمر بمخالفتهم، وفيهما ذكر لبعض المسائل الأصولية في ذلك:
قال - رحمه الله -: وهنا نكتة قد نبهت عليها في هذا الكتاب، وهي أن الأمر بموافقة قوم أو بمخالفتهم قد يكون لأن نفس قصد موافقتهم، أو نفس موافقتهم مصلحة، وكذلك نفس قصد مخالفتهم، أو نفس مخالفتهم مصلحة، بمعنى: أن ذلك الفعل يتضمن مصلحة للعبد، أو مفسدة؛ وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به الموافقة، أو المخالفة، لو تجرد عن الموافقة والمخالفة، لم يكن فيه تلك المصلحة أو المفسدة؛ ولهذا نحن ننتفع بنفس متابعتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين في أعمال لولا أنهم فعلوها لربما قد كان لا يكون لنا مصلحة؛ لما يورث ذلك من محبتهم وائتلاف قلوبنا بقلوبهم، وأن ذلك يدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى، إلى غير ذلك من الفوائد.
كذلك: قد نتضرر بمتابعتنا الكافرين في أعمال لولا أنهم يفعلونها لم نتضرر بفعلها، وقد يكون الأمر بالموافقة والمخالفة؛ لأن ذلك الفعل الذي يوافق فيه أو يخالف، متضمن للمصلحة أو المفسدة ولو لم يفعلوه، لكن عبر عن ذلك بالموافقة والمخالفة، على سبيل الدلالة والتعريف؛ فتكون موافقتهم دليلًا على المفسدة، ومخالفتهم دليلًا على المصلحة، واعتبار الموافقة والمخالفة على هذا التقدير: من باب قياس الدلالة, وعلى الأول: من باب قياس العلة، وقد يجتمع الأمران، أعني: الحكمة الناشئة من نفس الفعل الذي وافقناهم أو خالفناهم فيه، ومن نفس مشاركتهم فيه، وهذا هو الغالب على الموافقة والمخالفة المأمور بهما والمنهي عنهما، فلا بد من التفطن لهذا المعنى، فإنه به يعرف معنى نَهْي الله لنا عن اتباعهم وموافقتهم، مطلقًا ومقيدًا. انتهى.
وقال أيضًا - رحمه الله -: وهذا الحديث ـ يعني حديث: ومن تشبه بقوم فهو منهم ـ أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم, كما في قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ـ وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال: من بنى بأرض المشركين, وصنع نيروزهم ومهرجانهم, وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة، فقد يحمل هذا على التشبه المطلق فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك, وقد يحمل على أنه منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفرًا، أو معصية، أو شعارًا لها كان حكمه كذلك، وبكل حال يقتضي تحريم التشبه بعلة كونه تشبهًا، والتشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه, وهو نادر، ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذًا عن ذلك الغير، فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضًا ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه، ففي كون هذا تشبهًا نظر، لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه، ولما فيه من المخالفة. انتهى.
ولمزيد من الفائدة يمكنك مراجعة الفتاوى التالية: 134987، 48765، 132437.
والله أعلم.