عنوان الفتوى : جواز الانتفاع بالمقبرة المندرسة بناءً وزراعة
يسأل أحد المسؤولين عن البلدية في دولة عربية ويقول:سيدي أدام الله فضلكم، ما رأي الإسلام في البناء على أرض كانت قبل مائة سنة تقريباً مقبرة للمسلمين، ولم يجر الدفن خلال هذه الفترة تقريباً على رأي السادة الأحناف في كتبهم المعتبرة مع بيان المرجع بالمجلد والصفحة حتى تكون هذه الفتوى سنداً قوياً في هذا الموضوع، وشكر الله سعيكم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فجمهور العلماء على أنه يجوز الانتفاع بالقبور المندرسة، وهي التي بلي فيها الأموات ولم يبق لهم أثر، وقد اختلفوا في أوجه الانتفاع، فذهب المالكية إلى أنه ينتفع بها في دفن الموتى فقط، وأجاز بعضهم بناء المسجد فيها، ومنعوا وجوه الانتفاع الأخرى، قال صاحب فتح الجليل شرح مختصر خليل: (ولا ينبش ما دام به ... أي في القبر، فإن تحقق أو ظن أنه لم يبق شيء محسوس من الميت فيجوز نبشه للدفن فيه فقط، لا زراعته ولا بناء دار) انتهى.
وقال صاحب الشرح الصغير: (إذا علم أن الأرض أكلته ولم يبق منه شيء من عظام فإنه ينبش، لكن للدفن أو اتخاذ محلها مسجداً لا للزرع والبناء).
وذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى جواز الانتفاع بها في الدفن والحرث والزرع والبناء وسائر وجوه الانتفاع، قال ابن عابدين الحنفي في رد المحتار على الدر المختار ج/3 ص/138-139: (وقال الزيلعي: ولو بلي الميت وصار تراباً جاز دفن غيره في قبره وزرعه والبناء عليه، قال في الإمداد: ويخالفه ما في التتارخانية إذا صار الميت تراباً في القبر يكره دفن غيره في قبره، لأن الحرمة باقية... قلت -القائل ابن عابدين- لكن في هذا مشقة عظيمة، فالأولى إناطة الجواز بالبلى؛ إذ لا يمكن أن يعد لكل ميت قبر لا يدفن فيه غيره، وإن صار الأول تراباً، لا سيما في الأمصار الكبيرة الجامعة، وإلا لزم أن تعم القبور السهل والوعر على أن المنع من الحفر إلى أن يبقى عظم عسر جداً، وإن أمكن ذلك لبعض الناس لكن الكلام في جعله حكماً عاماً لكل أحد فتأمل)
والكلام الذي نقله عن عثمان بن الزيلعي مذكور في كتابه تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، وقال العيني الحنفي في البناية في شرح الهداية في ج/3 ص/295: (ولو بلي الميت وصار تراباً يجوز دفن غيره في قبره وزرعه والبناء فيه وسائر الانتفاعات به) انتهى.
وقال النووي الشافعي في المجموع: (وأما نبش القبر فلا يجوز لغير سبب شرعي باتفاق الأصحاب، ويجوز بالأسباب الشرعية كنحو ما سبق، ومختصره أنه يجوز نبش القبر إذا بلي الميت وصار تراباً وحينئذ يجوز دفن غيره فيه، ويجوز زرع تلك الأرض وبناؤها وسائر وجوه الانتفاع والتصرف فيها باتفاق الأصحاب، وإن كانت عارية رجع فيها المعير، وهذا كله إذا لم يبق للميت أثر من عظم ولا غيره، قال أصحابنا رحمهم الله: ويختلف ذلك باختلاف البلاد والأرض ويعتمد فيه قول أهل الخبرة بها) انتهى
وقال المرداوي الحنبلي في كتابه الإنصاف: (متى علم أن الميت صار تراباً قال في الفروع: ومرادهم ظن أنه صار تراباً، ولهذا ذكر غير واحد يعمل بقول أهل الخبرة، فالصحيح من المذهب أنه يجوز دفن غيره فيه، نقل أبو المعالي جاز الدفن والزراعة وغير ذلك، ومراده إذا لم يخالف شرط واقفه لتعيينه الجهة وقيل لا يجوز) انتهى.
وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني: (وإن بلي الميت وعاد تراباً فلصاحب الأرض أخذها) انتهى.
والحاصل من جميع ما تقدم هو أن جواز الانتفاع بالمقبرة المندرسة بناءً وزراعة وغير ذلك من وجوه الانتفاع هو الراجح، وهو مذهب الجمهور ومنهم الحنفية، وهذا كله إذا لم تكن الأرض موقوفة، أما إذا كانت الأرض موقوفة فلا يجوز الانتفاع بها إلا على شرط الواقف.
أما إذا بقي للأموات أثر من عظم أو غيره فلا يجوز نبش قبورهم للبناء -ولو مرت عليها مئات السنين- فالتنظيم العمراني من الكماليات وليس من الضروريات المجيزة لنبش قبور لا تزال فيها آثار للأموات، فحرمة الميت كحرمة الحي، فقد أخرج أبو داود وابن ماجه وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حياً) بل إن ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر قد عد ذلك من الكبائر، فعلى المؤمنين الأحياء أن ينظموا أمورهم وحياتهم بما ليس فيه أذية موتاهم.
والله أعلم.